لفت البطريرك الماروني الكاردينال ​مار بشارة بطرس الراعي​، إلى أنّ "حبة الحنطة إذا وقعت في الأرض وماتت، أتت بثمر كثير" (يو24:12). يسوع هو "حبة الحنطة" بامتياز. مات على الصليب في أرض أورشليم، وقام من الموت بعد ثلاثة أيام، فولدت من موته وقيامته الكنيسة الّتي تغطّي وجه المسكونة كلّها، وجعل من صورة "حبة الحنطة" نهجًا لكلّ مسيحي، بل لكلّ إنسان. ذلك أنّ من التضحية والتفاني وإخلاء الذات تولد الأمور الكبيرة".

وأوضح في عظة ألقاها خلال ترؤسه الذبيحة الإلهية في باحة ​دير مار مارون​ - مجدل المعوش، أنّ "من الّذين تبعوا هذا النهج القديس مارون، الّذي من موته الروحي بالتقشّف والزهد في ناحية القورشية، ما بين أنطاكية وحلب، ولدت ​الكنيسة المارونية​. من ثمّ نمت مرتوية بدم شهدائها تلاميذ مار مارون الثلاثمئة والخمسين الّذين نحتفل بعيدهم. هم أيضًا تبعوا نهج "حبة الحنطة" حتّى الإستشهاد سنة 517 دفاعًا عن إيمانهم الكاثوليكي المعلن في مجمع خلقيدونية سنة 451".

وبيّن البطريرك الراعي أنّ "هكذا نمت كنيستنا المارونية وانتشرت في القارات الخمس بعد أن تأصّلت في جبل ​لبنان​ كشجرة الأرز. ذلك أنّ الآباء والأجداد ساروا على نهج "حبة الحنطة" جيلًا بعد جيل، في عهود من التاريخ تناوبت فيها الصعوبة والسهولة، التعذيب والراحة، الحرب والسلم"، منوّهًا إلى أنّه "يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهية في دير مار مارون هذا العامر في مجدل المعوش العزيزة التابع للرهبانية اللبنانية المارونية الجليلة، إحتفاء بعيد تلاميذ القديس مارون الشهداء وبمناسبة تكريس تمثال أبينا القديس مارون".

وذكر أنّ "دير مار مارون هذا ومدرسته عرفا موت الحرب والدمار، لكنّهما بهمّة ​الرهبانية اللبنانية المارونية​ الجليلة، وتمسّكها بحضورها ورسالتها وتاريخها في هذه المنطقة، قاما من الركام بحلّة جديدة، من أجل خدمة روحية وراعوية وتربوية تعطي ثمارا أوفر. واتخذت الرهبانية في هذا السياق منذ سنتين القرار بتعليم تلامذة الجبل من دون أي قسط لتثبيتهم فيه، حيث تاريخهم وتقاليدهم". وأفاد بأنّ "الرهبانية قرّرت أيضًا دعم المدرسة وتطويرها ورفع مستوى التعليم فيها، مؤمنة لطلابها النجاح الأفضل في العلوم الجامعية. وهكذا فعلت في مناطق أخرى من لبنان، هدمت فيها أديارها ومؤسساتها فرممتها وطورتها من أجل خدمة أفضل وأشمل، وأمنت هكذا المزيد من فرص العمل، وزرعت الأمل في النفوس، والطمأنينة في القلوب. وهذا ما فعلته أيضًا الرهبانيات الأخرى والأبرشيات".

وسأل: "ماذا ينقص المسؤولين السياسيين في الدولة لكي يحذوا حذوها، وفي عهدتهم ​المال​ العام وكلّ مرافئ الدولة ومرافقها وإمكانيّة التعاون مع الدول والمؤسسات الدولية لاقتراض المال اللازم والإفادة من التسهيلات العالميّة للقيام بالمشاريع الإقتصاديّة المنتجة؟". وشدّد على أنّ "بسبب إهمالهم و​الفساد​ المالي المستشري في صفوفهم وهدر المال العام، إفتقر الشعب، علا صراخهم، وتحطّمت آمالهم. هذا، وعلى أرض لبنان مليون ونصف مليون نازح من الإخوة السوريين يسابقون اللبنانيين على كسب لقمة العيش بجميع الطرق".

كما أشار الراعي إلى أنّ "الإخوة ​اللاجئين الفلسطينيين​ يتظاهرون وينتفضون، عندما أرادت ​وزارة العمل​ تطبيق القانون الّذي يؤمّن لهم وللبنانيين سبل العمل في ظروف إقتصاديّة شديدة الخطورة على الجميع"، مؤكّدًا أنّ "المطلوب عدم تسييس هذا الموضوع واستغلاله، حفاظًا على ​القضية الفلسطينية​ الأساس الّتي نناضل معهم من أجلها".

وركّز على أنّه "آلمتنا جدًّا في الصميم، كما آلمت كل اللبنانيين، حادثة ​قبرشمون​ الّتي وقعت في أول تموز ووتّرت الأجواء الأمنيّة والسياسيّة وأيقظت المخاوف وعطلت جلسات ​الحكومة​، وشلّت حركة الدولة، وأنزلت خسائر إقتصاديّة وماليّة في الدولة وبترت حركة ​السياحة​، وأفقدت لبنان ثقة شعبه وثقة الدول به. وجاءت بكلّ أسف الحادثة الثانية في البساتين لتعيد مساعي الخير إلى نقطة الصفر". وجزم أنّه "لا يمكن الاستمرار في هذه الحالة، بل يجب إيجاد الحل بالعودة إلى ​الدستور​ نصًّا وروحًا، مهما اقتضى ذلك من تضحيات في الرأي والموقف والرؤية السياسيّة والمصلحة الخاصة، تطبيقًا لنهج "حبة الحنطة".

وأكّد أنّ "من التضحية تولد الأمور الكبيرة، وأوّلها خلاص لبنان كيانًا وشعبًا ومؤسّسات، ونهوضه الاقتصادي والمالي والإنمائي والاجتماعي. وكم نود أن تكون المصالحة الداخلية في الجبل، مع الالتزام بمقتضياتها نموذجًا لسائر المصالحات السياسيّة في مختلف المناطق وعلى مستوى الوطن ككل"، متسائلًا: "كيف نستطيع أن نتغنّى بالعيش المشترك والنظام الديمقراطي والوحدة في التعددية، فيما الخلافات والإنقسامات تتفاقم، وعمليّات الإقصاء والاستبعاد والاستئثار جارية، خلافًا لقاعدة التعددية في الوحدة والمشاركة المتوازنة في إدارة شؤون الدولة؟".

إلى ذلك، رأى الراعي أنّه "إذا حافظ المسؤولون السياسيون على هذه القاعدة المبنيّة على الدستور والميثاق الوطني الّذي جدّده ميثاق الطائف، سلكوا حقًّا الطريق الآمن والسليم إلى بناء الدولة وحماية الوطن. وما عدا ذلك نظلّ نتخبّط في الظلمة، والدولة تتقهقر بكل مقوماتها ومكوناتها".