بين الآمال والحقائق المريرة مسافة شاسعة. وبين كلام الإنجازات الموعودة وواقع المراوغة والتعطيل، لا نحصد إلا نتيجة واحدة: مزيد من الإحباط والانكماش.

الرئيس ​ميشال عون​ وجَّه دعوة "للتضحية مرحلياً ببعض المكتسبات، بهدف المساعدة على مواجهة الازمة الاقتصادية والمالية".

نحن نعرف فخامة الرئيس عن كثب. إنه من أكثر الناس تواضعاً في حياته الخاصة.

وفخامتكم وقعتم ​الموازنة​ وهي لا تَحظى برضاكمُ في العديد من بنودها. وهاجسكم تسيير شؤون الدولة ووقف انزلاق البلد اقتصادياً ومالياً.

نسمح لأنفسنا ان نسأل: لماذا لا تأتي التضحية من "حيتان المال"؟

وسؤال آخر: لماذا يتم اقتطاع 3% من طبابة أبناء المؤسسة العسكرية، التي منها جاء فخامة الرئيس ويفخر بها، ولا يتم فرض رسوم توازي الـ30% على الأملاك البحرية التي لم تقترب منها الموازنة أبداً؟

التضحية يجب ان تأتي من الذين "يبلّطون البحر" منذ عقود وعقود ويشكلون محميّات لا يمسّها أحد؟

***

أما تعطيل مجلس الوزراء ألا يزيد الأمور سوءاً كل يوم؟

وكم بلغت نسبة الغلاء والتضخم في هذه الفترة، وكم من متجر وشركة ومؤسسة دفعها الانكماش إلى الإفلاس والإقفال؟ وكم من مؤسسة تعاني بصمت وهي عاجزة عن تسديد الرواتب للموظفين؟

هل مسموح أن يقفل احد المستشفيات في ضواحي بيروت أبوابه عاجزاً عن تسديد التزاماته، وأن تقف الدولة أيضاً عاجزة لأنها لا تستطيع الإيفاء بواجباتها.

وحتى قطاع البناء الذي يعيش منه أصحاب 40 أو 50 مهنة، ويحرك الاقتصاد، مشلول بسبب أزمة القروض المصرفية والفوائد المرتفعة التي لم يعد المطوِّر العقاري قادراً على تحملها.

وأما أقساط التعليم فهي صارت ناراً تَحرق قلوب الأهل. والأنكى أن الجامعات سارعت إلى تحديد أقساطها بالدولار… إحتياطاً.

وهل بقيت طبقة متوسطة تحمل أعباء أي اهتزاز لقيمة العملة الوطنية، فيما هؤلاء يتقاضون رواتبهم بالليرة… إذا استمرت هذه الرواتب أساساً!

***

إنه قهر ما بعده قهر أن تستمرّ الأزمة الحكومية أسبوعاً بعد أسبوع بلا حلول. والكلّ ناطر الكلّ، والبلد "مُكربَجْ".

لنعد إلى الطائف: يقول إن رئيس الجمهورية يحضر مجلس الوزراء فيترأسه. لكن الجلسة يدعو إليها دولة رئيس الحكومة.

فإذا لم يعُد الرئيس سعد الحريري من الخارج ويدعُ إلى جلسة هذا الأسبوع، لا يمكن توقّع انفراج هذا الأسبوع.

وفي الأسبوع المقبل، ستكون الدنيا عيد: الأضحى المبارك في نهاية الأسبوع. ثم عيد انتقال السيدة العذراء في 15 الجاري. وبعد ذلك تأتي عطلة الأسبوع.

وهذا يعني أن الانتظار قد يطول أيضاً إذا لم تحدث "أعجوبة"…

***

الحكومة عالقة، والجهد الأساسي للوساطة يقوم به اللواء عباس ابراهيم، فلا سمح الله إذا أصيب اللواء باليأس والقنوط من السياسيين وأوقف محاولاته، ماذا سيحدث عندئذٍ، وبمن نستعين؟

***

حادثة البساتين تشلّ البلد. الوزير جنبلاط يعتبر أنه مُستهدَف، وآخرون يعتبرون أنفسهم كذلك. ومجلس الوزراء ينتظر الحلحلة، والبلد رهينة التعطيل ومعه كل انتظارات "سيدر" ووعوده.

وكل ذلك، فيما الآتي أعظم. والآتي يقترب، وننتظره من مؤسسات التصنيف الدولية.

في 23 الجاري ستصدر "ستاندرد إند بورز" تقريرها. فإذا جاء سلبياً وفق المتوقع، فإن مؤسسات أخرى ستتأثر به، كما أن رصيد لبنان إزاء المؤسسات المالية العالمية سيكون في خطر حقيقي.

ولا نعرف إذا كانت ستنجح مساعينا لتأجيل إصدار التقرير أو التخفيف من قساوته. ولكن، أليس الأسهل أن نقوم بعملية إنقاذ حقيقية بدل استمرار إيهام العالم بأننا نعمل للإصلاح؟

***

اللبناني بطبيعته، بجيناته الموروثة، متفائل.

وهذا التفاؤل هو ما سمح له بالنهوض بعد كل تعثُّر.

ولكن: كيف نتفاءل اليوم فيما موازنة 2020 ما زالت طيّ الغيب؟

من العام 2005، مررنا بالفراغ الرئاسي وأزمات كثيرة. لكننا كنّا أفضل مما نحن اليوم بكثير.

فالدين العام كان أدنى.

وتصنيفنا السيادي كان أفضل.

والتقنين كان أقلّ بكثير.

وأزمة النفايات كانت في بداياتها.

وحتى النزوح السوري كان هناك تفاؤل أكبر بمعالجته.

فماذا نقول بعد؟

***

لا يستطيع بلد أن يعيش أسابيع وأشهراً من دون مجلس وزراء.

في بريطانيا، طارت حكومة تيريزا ماي فجاءت حكومة بوريس جونسون، التركي الجذور، ليملأ الفراغ، وبمعزل عن أي إنتقاد لشخصه وطباعه. استقرار البلد هو الأولوية.

***

أما الحلّ الأفضل فهو واضح لمن يريد أن يرى: رُدّوا المال المنهوب من "حيتان المال". أو أقله، رُدّوا 10 مليارات أو 20 ملياراً… من عشرات وعشرات المليارات المنهوبة عبر سنين طويلة.

كثيرٌ من هذا المال معروف مكانُه. إنه هنا في البلد، لم يذهب إلى أي مكان، خصوصاً بعد 11 أيلول سبتمبر 2001. لأن النظام المالي العالمي أصبح أكثر دقة وتشدداً على التحاويل المصرفية. إذ الأرجح أنه عندنا هنا و"مِن دِهنو سقِّيلو" كما يقول المثل اللبناني.

إنها الطريق الأسرع والأسهل للإنقاذ… وهي لا تحتاج لا إلى مؤتمرات دعم ولا إلى وساطات خارجية، فقط تحتاج إلى ضربة موجعة ولو واحدة تكون عِبرةً لمن مدّ يده على المال العام.