منذ حصول حادثة قبر شمون تعطلت اجتماعات الحكومة بانتظار التوافق على طريقة معالجة الحادثة، ولم تفلح جميع المبادرات حتى الآن في إيجاد صيغة تؤمّن هذا التوافق واستئناف عمل الحكومة المعطل.. وحتى ولو تمّ الاتفاق على صيغة توافقية وتمّ تسوية الأمر انطلاقاً من أنّ الأطراف السياسية المشاركة في الحكومة لم تعد تستطيع تحمّل المزيد من التعطيل.. الا انّ ذلك لا يعني أنّ الأزمة قد تم تجاوزها.. لأنّ حادثة قبر شمون، الأمنية في الشكل، شكلت تهديداً للسلم الأهلي وكشفت ضعف الدولة، وأنّ سلطات الأمر الواقع لا تزال أقوى من الدولة.. بل أنّ الخطير في الأمر أنه بعد نحو ربع قرن على اتفاق الطائف الذي أصبح دستور لبنان تبيّن أنّ الدولة عاجزة عن فرض وجودها وسلطانها على كلّ الأراضي اللبنانية وأنّ الأمن لا يزال يتمّ بالتراضي.. وانّ منطق الكانتونات والغيتوات الطائفية لا يزال هو السائد الذي يمنع الدولة من فرض القانون والأمن على الجميع دون استثناء.. ما يعني تذكير اللبنانيين بزمن الحرب الأهلية.. والسبب طبعاً يعود إلى انّ اتفاق الطائف جرى إفراغه من مضمونه لناحية عدم تطبيق الإصلاحات السياسية التي تنصّ على إلغاء الطائفية السياسية.. فقد تمّ منذ عام 1993 تجاهل البنود الإصلاحية التي نصّ عليها الطائف لناحية تنفيذ آليات

إلغاء الطائفية السياسية.. وجرى بدلاً من ذلك إعادة إنتاج نظام المحاصة الطائفية في ظلّ تهميش وإقصاء الممثلين الحقيقيين للمسيحيين عن المشاركة، واحتكار هذا التمثيل من قبل أطراف الطبقة السياسية التي سيطرت على السلطة واستأثرت بالحصة المسيحية في مؤسسات الدولة من برلمان وحكومة إلى التعيينات في وظائف الفئة الأولى التي نص الطائف في المرحلة الأولى بأن تكون مناصفة بين المسلمين والمسيحيين. ولهذا فقد تضخم تمثيل قوى سياسية طائفية في البرلمان والحكومة ومؤسّسات الدولة الأخرى.. لأنها حصلت على حصة من جبنة النظام الطائفي أكبر من حجمها ووزنها الفعلي.. غير أنّ هذه المرحلة التي استمرت، نحو ربع قرن، انتهت مع عودة مشاركة الأحزاب المسيحية في السلطة والتي تكرّست بالمشاركة في الانتخابات النيابية بفعالية ما أدّى إلى تصحيح التمثيل المسيحي في البرلمان والحكومة.. على أنّ هذا التصحيح في التمثيل المسيحي كان من الطبيعي وفق نظام المحاصة ان ينعكس أيضاً في تعيينات وظائف الفئة الأولى في مؤسّسات الدولة وبالتالي انتهاء تسمية الأسماء المسيحية لوظائف الفئة الأولى من قبل تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي.. وهو ما ظهر أخيراً عندما بدأت أطراف الحكومة المشكلة أخيراً بناء على نتائج الانتخابات الأخيرة التي أحدثت توازناً جديداً في السلطة، إجراء التعيينات في مراكز الفئة الأولى، ما أدّى إلى نشوب صراع بين التيار الوطني الحر، برئاسة وزير الخارجية جبران باسيل، وبين الحزب التقدمي برئاسة النائب السابق وليد جنبلاط، الذي بدأ يفقد القدرة على الاحتفاظ بالمراكز الأساسية للدولة في الجبل، بعد ان أصبح باسيل هو من يسمّي معظم الأسماء المسيحية لشغل هذه المراكز، بدءاً من آمر سرية بيت الدين الذي يشكل سلطة الدولة في الجبل. وقد سمّاه باسيل، في حين كان يسمّى في المرحلة الماضية من قبل جنبلاط.. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ بل سوف ينسحب ايضاً على بقية المراكز، وحتى الدرزية منها، لانّ جنبلاط لم يعد يملك حصرية التمثيل الدرزي على ضوء نتائج الانتخابات.. في وقت أصبح جنبلاط يشعر بأنه بات مهمّشاً في المعادلة السياسية لصياغة القرار بعد التسوية التي أدّت إلى انتخابات الرئيس ميشال عون وانتجت قانوناً جديداً للانتخابات جرت الانتخابات النيابية الأخيرة على أساسه.. هذا التطور الجديد على مستوى إعادة صياغة وتشكيل السلطة وإجراء التعيينات بناء على التوازنات الجديدة التي أنتجتها الانتخابات النيابية.. دفع جنبلاط إلى محاولة قلب الطاولة والتذكير بانه الأمر الناهي في الجبل وصاحب القرار.. وعلى الوزير باسيل أن يطرق بابه إذا كان يريد زيارة الجبل، ولهذا نظم الحزب التقدمي احتجاجات ضدّ زيارة باسيل وأوصل الرسالة إلى باسيل عبر حادثة قبر شمون لمنعه من إكمال زيارته إلى بلدة كفرمتى مع الوزير صالح الغريب.. إذا لم يطلب إذن المختارة..

ولا شك أنّ هذا التصرف تغذى ايضاً من الخطاب والممارسات الطائفية والمذهبية التي استحضرت من قبل بعض الأحزاب ذات اللون الطائفي، إسلامياً ومسيحياً، مما أشر إلى مستوى وحجم العودة الى لغة التخندق الطائفي والمذهبي وبالتالي تجويف مضمون اتفاق الطائف..

هذا الواقع يؤكد أنّ النظام الطائفي القائم على المحاصصة الطائفية إنما هو نظام يولد الأزمات ويتسبّب بعدم الاستقرار السياسي وتعطيل عمل أهمّ مؤسسة في الدولة ألا وهي السلطة التنفيذية المعنية في إدارة شؤون الدولة وتنفيذ السياسات الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية.. ولو جرى تطبيق ما نص عليه الطائف من آليات لإلغاء الطائفية السياسية، علة العلل التي تجعل الطائفية وسيطاً بين الدولة والمواطن، لكنا اليوم قد تخلّصنا من هذه الطائفية السياسية.. فقد نص الطائف على أنه مع انتخاب أول مجلس نواب وطني يجري انتخاب مجلس الشيوخ على أساس طائفي يُعنى بالأمور المصيرية، والذي كان يحب أن يتمّ عام 1996.. ويتمّ تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية..

انّ الأزمة الحالية كشفت خطورة الاستمرار في عدم تطبيق إصلاحات الطائف.. وأكدت أنه لا مخرج للبنان من استمرار أزماته الا بالمسارعة إلى وضع إصلاحات الطائف موضع التنفيذ العملي.. فحتى لو جرى الاتفاق على تسوية توافقية للأزمة الحالية واستئناف اجتماعات مجلس الوزراء فإنه يتمّ على حساب تطبيق الطائف بعقد اجتماعات الحكومة واتخاذ القرار إما توافقياً أو عبر آلية التصويت في حال عدم وجود توافق.. وهذا يؤكد انّ لبنان لن يخرج من الأزمة وأنه سيكون عرضة الى تفجّر أزمات جديدة في القادم من الأيام.. لانّ الأساس الذي يؤدّي إلى استمرار الأزمة وحصول أزمات أخرى هو استمرار نظام المحاصصة الطائفية واستمرار الخطاب الطائفي والمذهبي وسلطات الأمر الواقع، إلى جانب استمرار السياسات الاقتصادية والاجتماعية النيوليبرالية الريعية والتي أشاعت الفساد وأدّت إلى إغراق لبنان بالديون الداخلية والخارجية وتراجع الاقتصاد والقدرة الشرائية للمواطنين..

لذلك فإنّ الحلّ إنما يكمن في فرض سلطة الدولة ووضع إصلاحات الطائف موضع التنفيذ العملي بما يضع لبنان على سكة إلغاء الطائفية السياسية وبالتالي إنهاء نظام المحاصصة الطائفية الذي يخدم مصالح الزعامات الطائفية على حساب مصالح المواطنين من كلّ الطوائف.. وكلّ ذلك لا بدّ أن يكون مرتبطاً أيضاً في التحرر من التبعية الاستعمارية للولايات المتحدة التي تتدخل في شؤون لبنان الداخلية وتدعم استمرار النظام الطائفي.. فهي تفرض عبر الأطراف الموالية لها في النظام الطائفي الوصاية المالية على المصرف المركزي والمصارف اللبنانية.. كما تفرض الإملاءات السياسية التي تمنع لبنان من إجراء عقود اقتصادية وتجارية مع دول صديقة.. مثل سورية وإيران والصين وروسيا.. لحلّ أزماته الاقتصادية والخدماتية.. ما يشكل معضلة أساسية تواجه القوى الوطنية والتقدمية والمقاومة للاحتلال ألا وهي مواجهة الهيمنة الاستعمارية.. ذلك أنّ هناك ارتباطاً عضوياً بين الهيمنة الأميركية والزعامات الطائفية التي تتمسك بصيغة المحاصصة الطائفية وترفض تطبيق إصلاحات الطائف وتستند إلى الدعم الأميركي للحفاظ على مصالحها الطائفية التي يؤمّنها بقاء النظام الطائفي والحفاظ عليه..