تغيب الأخبار الواردة من ​سوريا​ لبضعة أسابيع فيظنّ الكثيرون أنّ الحرب إنتهت، ثم ما تلبث أن تعود الأخبار من جديد، تارة عن حُشود تركيّة على الحدود في ظلّ تهديدات بشن هُجوم شرقي ​الفرات​، وطورًا عن حُشود سوريّة لإستعادة مُحافظة إدلب بالقوّة، وتارة أخرى عن فشل الجولة الأخيرة التي عُقدت في العاصمة الكازاخستانية في إحراز أي تقدّم يُذكر نحو التسوية النهائيّة... ليتأكّد الجميع أنّ الحرب لا تزال قائمة–ولوّ بأوجه مُختلفة!.

أوّلاً: في جديد الخلاف الأميركي–التركي بشأن حُدود "المنطقة الآمنة" في شمال سُوريا، إرتفع مُستوى الخلاف بين واشنطن وأنقره خلال الأيّام والساعات القليلة الماضية، بعد تهديد الثانية بالتحرّك عسكريًا بشكل أحادي شرق الفرات، وتحذير الأولى من مغبّة الإقدام على هذه الخُطوة. إشارة إلى أنّ ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة رفضت المُوافقة على الشروط التركيّة، للتحرّك بغطاء أميركي، بعد أن أصرّت أنقره على ألاّ يقلّ عمق المنطقة تحت السيطرة التركية في الداخل السُوري عن 30 كيلومترًا، علمًا أنّ واشنطن تعتبر أنّ عمق 5 كيلومترات كافٍ، والأهمّ بعد أن أصرّت أنقرة على أن تتمّ مُصادرة مُختلف الأسلحة التي هي بحوزة "​وحدات حماية الشعب الكردي​"، لتكون "المنطقة العازلة" خالية تمامًا من السلاح، في حين ترفض واشنطن تجريد "قوّات سوريا الديمقراطية" المُوالية لها من أسلحتها. والمُفارقة أنّ المُحادثات التي يُجريها المبعوث الأميركي المُختصّ بالملفّ السوري، ​جيمس جيفري​، مع المسؤولين الأتراك، تجري في ظلّ إعتراض سوري رسمي كبير، لأنّ الملفّ موضوع الخلاف يقع داخل الأراضي السُورية! وليس بسرّ أنّ ​تركيا​ التي رفعت مُستوى الحُشد لجيشها على الحُدود مع سوريا، تُهدّد بإطلاق عمليّة عسكريّة كبيرة شرقي الفرات، ما لم يتمّ التوافق على إنشاء "المنطقة الآمنة"، وذلك بحجّة الدفاع عن أمن وإستقرار تركيا. يُذكر أنّ حجم الوحدات العسكريّة الأميركيّة التي لا تزال مُنتشرة في سوريا، يُقدّر بنحو ثلاثمئة عُنصر فقط لا غير، وهم سيجدون أنفسهم بوضع صعب، في حال تحرّكت تركيا عسكريًا لضرب المُقاتلين الأكراد السوريّين، علمًا أنّ واشنطن عمدت خلال الساعات القليلة الماضية إلى إرسال تعزيزات عسكريّة من العراق إلى الداخل السُوري. وبحسب خُلاصة العديد من التقارير الغربيّة، من المُستبعد أن تتحرّك تركيا عسكريًا في الداخل السُوري، في ظلّ الخلاف الكبير مع الولايات المتحدة الأميركيّة، ما يعني أنّ التحرّكات والتهديدات التركية في هذا المجال حاليًا، تصبّ في خانة رفع المَطالب تمهيدًا لتقديم تنازلات مُختلفة تسبق التسوية. إشارة أيضًا إلى أنّ النظام السُوري يُحاول الدُخول على خط هذا الملف عبر عقد تفاهمات سياسيّة مع جماعات كرديّة مُعارضة لأنقره، لتشجيعها على مُواجهة الجيش التركي والفصائل المُسلحة المُوالية لهذا الأخير.

ثانيًا: بالنسبة إلى جديد المعارك في مُحافظة إدلب، آخر المعاقل الخارجة عن سيطرة الجيش السُوري، فإنّها تخفّ حينًا وتشتدّ حينًا آخر، في ظلّ مُحاولات مُتكرّرة من جانب الجيش السُوري والوحدات غير النظاميّة التي تدعمه للتقدّم. لكنّ النتائج الميدانية التي سُجّلت خلال هجمات حزيران وتمّوز الماضيين كانت مَحدودة نسبة إلى حجم الخسائر التي مُنيت بها الوحدات المُهاجمة، باعتبار أنّ الميليشيات المُسلّحة المُصنّفة مُعارضة تُقاتل بشراسة للدفاع عن مواقعها، وهي كانت قد إستغلّت فترات الهدوء النسبي على الجبهات لتعزيز تحصيناتها ودفاعاتها. وبالتالي، لا مصلحة للجيش السُوري ولحلفائه لخوض "معارك إستنزاف"، لكنّ الأكيد أن من شأن تشديد القصف الصاروخي والمدفعي على العديد من المناطق الواقعة في شمال غرب سوريا، أن يجعل الجماعات المُسلّحة المُناهضة للنظام في وضع ضعيف أمام مُؤيّديها، حيث فرّ نحو أربعمئة ألف سوري حتى تاريخه من المناطق المُستهدفة بكلّ من الغارات الروسية والضربات السُورية المُتجدّدة. وبحسب العديد من الخُبراء الغربيّين إنّ سياسة الضغط على القاعدة الشعبيّة الحاضنة لفصائل المُعارضة، يُضعف هذه الأخيرة، ويجعلها أقلّ تصلّبًا وبالتالي قابلة أكثر للرضوخ لشروط التسويات التي يتمّ فرضها عليها، في ظلّ الخلل الكبير في مَوازين القوى، لصالح النظام السُوري وحلفائه-سياسيًا وعسكريًا، في حين تغرق باقي الجهات في المُقابل، في خلافاتها ومشاكلها الداخلية!.

ثالثًا: بالنسبة إلى المُحادثات التي جرت أخيرًا في العاصمة الكازاخستانية "نور سلطان" (آستانة سابقًا) فينطبق عليها القول المأثور: "مكانك راوح"، حيث فشلت الأطراف المَعنيّة في إحراز أي تقدّم يُذكر في ما خصّ مواضيع البحث الثلاثة الأساسيّة، أي لجهة وقف المعارك وعمليّات القصف التي عادت إلى أكثر من منطقة في سوريا، ولجهة حسم إختيار أعضاء اللجنة الدُستوريّة والشروع في كتابة دُستور جديد لسوريا، وكذلك لجهة إيجاد آليّة عمل مُنتجة لإعادة اللاجئين السُوريّين إلى بلادهم. وعلى الرغم من مُشاركة لبنان في المُحادثات الأخيرة–بصفة مُراقب، فإنّ البيان الختامي للمُحادثات جاء مُخيّبًا للآمال حيث جرى المُرور على ملفّ النازحين السُوريّين من باب العُموميّات، وصار الجميع مُقتنعًا أكثر من أيّ وقت في السابق بأن لا عودة فعليّة للنازحين من دون غطاء سياسي دَولي شامل، والأهمّ من دون تمويل خليجي–أوروبي-غربي، لعمليّة إعادة إعمار سوريا. وبما أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة تستخدم مع حلفائها هذه الورقة للضغط وللمُساومة على التسوية النهائية في سوريا، فإنّ لبنان أمام خيارين: إمّا إنتظار هذه التسوية النهائية والتي طال أمدها كثيرًا، وإمّا اللجوء إلى قرارات أحاديّة قاسية لمُعالجة مُشكلة النزوح السُوري على أراضيه.

في الخُلاصة، الحرب السُوريّة لم تنته بعد، وهي عُرضة لمزيد من الأخذ والردّ ولعمليّات "شد الحبال" السياسيّة حينًا والعسكريّة حينًا آخر، وذلك بناء على تضارب مَصالح مجموعة واسعة من القوى المَعنيّة بشكل أو بآخر بالأزمة. وقدر لبنان أن يُعاني بسبب خلافات الآخرين، علمًا أنّ جزءًا كبيرًا من المسؤولية يقع أيضًا على الموقف اللبناني المُنقسم على نفسه إزاء ملفّ النازحين.