بلا غالب ولا مغلوب على جري العادة، أتت تسوية حادثة قبرشمون من خلال لقاء المصالحة الذي جمع في قصر بعبدا يوم الجمعة الماضي، كلاً من رئيسي "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" النائب السابق وليد جنبلاط و"​الحزب الديمقراطي اللبناني​" النائب طلال أرسلان، بحضور رؤساء الجمهورية ​ميشال عون​ والحكومة سعد الحريري ومجلس النواب نبيه بري.

وبمعزلٍ عن حسابات الربح والخسارة التي راجت في اليومين الماضيين، مع محاولة كلّ من "الاشتراكي" و"الديمقراطي" رفع أسهمه على حساب الآخر، فإنّ الوقائع الموضوعية تمنع أياً منهما من ادعاء "الانتصار"، بعد التنازلات التي فُرضت عليهما، هما اللذان رفضا سابقاً فكرة اللقاء بحدّ ذاتها، في كلّ المبادرات التي قُدّمت منذ اليوم الأول، والتي لم تأتِ مختلفة عن تلك التي وجدت طريقها للتنفيذ.

وبانتظار ترجمة "المصالحة" في المرحلة المقبلة، التي ستلي عطلة الأعياد، تُطرَح علامات استفهام عن دلالات غياب كلّ من وزير الخارجية ​جبران باسيل​ و"​حزب الله​" عن المصالحة، خصوصاً بعدما اتهم "الاشتراكي" الأوّل بالمسؤولية المباشرة عن كلّ ما حدث، واعتبر أنّ مفتاح المصالحة يكون باللقاء مع الثاني، وهو ما لم يتحقّق...

باسيل ربح؟

بطبيعة الحال، لا يمكن القول إنّ أياً من أرسلان أو جنبلاط خرج "منتصراً" من مصالحة بعبدا، بعد 40 يوماً من رفع الأسقف إلى حدّها الأعلى، بما لم يحفظ لهما "خط الرجعة" أمام الرأي العام. ولعلّ المُتابع للمؤتمر الصحافي الذي عقده أرسلان في اليوم التالي للمصالحة، استنتج هذا الأمر بسهولة، بعدما كان الغائب الأكبر عنه هو مصطلح "​المجلس العدلي​" الذي تكرّر مئات المرّات على لسان "المير" طيلة الشهر الفائت، هو الذي كان يكرّر دوماً أنّ أيّ حلّ لا ينطلق من إحالة القضية إلى المجلس العدلي لا يستحقّ النقاش.

ولا يبدو واقع جنبلاط أفضل بكثير، هو الذي رفض أيضاً أيّ حلّ يقوم على اللقاء مع أرسلان، الذي لامه مراراً وتكراراً لقبوله أن يكون "واجهة" لاستهدافه من قبل أطراف محدّدين، في حين أنّ المشكلة أكبر وأبعد منه، علماً أنّ المصالحة أكدت على استكمال المسار القضائي المفتوح للحادثة، أمام ​المحكمة العسكرية​، والتي كانت قيادة "الاشتراكي" وضعتها ضمن وسائل استهداف "البيك"، بعدما اتهمت في مؤتمر صحافي عقدته الأسبوع الماضي خصومها بالتدخل قضائياً لتحقيق هذا الغرض.

وبين هذا وذاك، ثمّة من يقول إن الوزير جبران باسيل هو الذي خرج "منتصراً" من المعركة، وأنّ تغيّبه عن لقاء المصالحة كان متعمَّداً، مع أنّ فكرة حضوره طُرِحت بشكلٍ واسع، فهو أراد بذلك دحض مقولة أنّه المسؤول عن كلّ ما حصل، وبالتالي التصدّي لفرضية أنّ المشكلة ليست درزية-درزيّة، وإنما درزيّة-مسيحيّة، والتي دخلت بعض القوى المسيحيّة على خطّ الترويج لها، بل تصوير نفسها وكأنّها التي أنقذت البلاد من مستنقع "الفتنة" التي كان يمكن أن تقضي على مصالحة الجبل.

ولعلّ التغريدة التي نشرها باسيل بعيد المصالحة تختصر الكثير في هذا الإطار، ليس لجهة الحديث عن أمور كثيرة حقّقها اللقاء "نمتنع عن ذكرها ونتركها لحينها" كما قال، فحسب، بل لجهة حديثه عن "لقاء مقبل مع أهلنا في الجبل"، عطفاً على تأكيده "انتصار منطق الدولة"، علماً أنّ المشكلة برمّتها حصلت على خلفية اعتراض مناصري "الاشتراكي" على زيارته إلى الجبل، وهو ما يبدو أنّه بات وراء ظهر الجميع.

الحاضر الغائب...

لم يكن غياب الوزير باسيل وحده عن مصالحة بعبدا محطّ الأنظار، إذ توقف كثيرون أيضاً عند غياب "حزب الله" عن اللقاء، على الرغم من أنّ جنبلاط كان اشترط في وقتٍ سابق اللقاء مع أحد ممثليه، لاعتباره أنّ القطيعة التي يفرضها عليه "الحزب"، منذ قرار وزير الصناعة وائل أبو فاعور الشهير بما خصّ معمل عين دارة، هي كلمة السر في كلّ ما يتعرّض له من استهداف يصفه بالممنهج والمبرمج.

إلا أنّ شرط جنبلاط هذا لم يتحقق، ولم يحضر أيّ ممثّل عن "الحزب" لتقديم أيّ ضمانات لـ"البيك"، وإن كان ثمّة من تحدّث عن وعد قطعه رئيس مجلس النواب لجنبلاط، لجهة تحريك وساطةٍ بينه وبين "حزب الله" في المرحلة المقبلة، استكمالاً لجهدٍ كان قد بدأه في وقتٍ سابق، وتُرجِم من خلال لقاءٍ "يتيم" عقد في عين التينة، من دون أن يُحدِث أيّ "خرق نوعي" على مستوى الصراع بين الجانبين.

ومع أنّ الحزب يعتبر غيابه عن اللقاء طبيعياً، باعتبار أنّه ليس معنياً بحادث قبرشمون من قريب أو بعيد من الأصل، ولو أنّ البعض حاول "توريطه" به، على رغم إعلانه مساندته مواقف حلفائه، فإنّ ثمّة من يقول إنّه كان "الحاضر الغائب" في اللقاء، باعتبار أنّه من تحرّك لإقناع "المير" بالقبول بالمبادرة المطروحة، علماً أنّ الحزب كان من دعاة عودة الحكومة إلى العمل، وهو ما جاهر به قياديّوه في الأسبوع الأخير، ومن بينهم نائب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم.

وفي وقتٍ يفصل الحزب بين "المصالحة" التي حصلت، وإمكان انعكاسها على صعيد علاقته مع "الاشتراكي"، والتي تبقى محكومة بـ"الرسميات" حتى إشعارٍ آخر، ثمّة من يقول إنّ لدى "الحزب" هواجس في مقابل تلك التي يتحدّث عنها جنبلاط يومياً، وترتبط باللقاءات التي يقوم بها "البيك" مع سفراء الدول الأجنبية، والتي ترجمت بالبيان غير المسبوق الذي صدر عن السفارة الأميركية، دعماً لجنبلاط، والذي سارع "الحزب" إلى الردّ عليه جملة وتفصيلاً، علماً انّ كلّ ذلك جاء تزامناً مع تسريبات أوحت بأنّ جنبلاط يسوّق نفسه لدى دوائر القرار الغربية، بأنّه يدفع ثمن مواجهة "حزب الله".

"بطولات وهميّة"

على جري العادة، لم تمرّ مصالحة بعبدا من دون "بطولات وهمية" تقاذفها جميع الفرقاء، تماماً كما كانوا يتقاذفون على مدى 40 يوماً الاتهامات بالتعطيل والعرقلة.

هكذا، حاول كلّ طرف الترويج بأنّ منطقه هو الذي "انتصر"، وأنّ الآخرين هم الذين "تنازلوا"، في وقتٍ يدرك الجميع أنّ كلّ اللاعبين كانوا في الحقيقة "مغلوبين"، بعيداً عن منطق "لا غالب ولا مغلوب"، بعد كلّ الأخذ والردّ الذي جرى.

وفي حين يسأل كثيرون عن سبب انتظار 40 يوماً للوصول إلى حلّ كان مطروحاً منذ اليوم الأول، ثمّة من يخشى أن يكون الشعب هو، مرّة أخرى، "المغلوب الأكبر"، نتيجة تعنّت الطبقة السياسية، وتغليبها مصالحها على كلّ ما عداها...