شدَّدت اللَّجْنة التَّنْفيذيَّة لمَجْلس كنائِس الشَّرْق الأَوْسط خلال اجْتِماعها الدَّوْريِّ في مقرِّ بَطْريركيَّة إِنْطاكية وسائر المَشْرق للسِّرْيان الأُرْثوذكس في العَطْشانة–بكفيَّا، يومَي 22 و23 كانون الثَّاني الماضي، على العَدْل، إِذ عُقِدت ندوةٌ لاهوتيَّةٌ–مَسْكونيَّةٌ تحت عُنْوان "أُطْلب العَدْل فَحَسْب"(تثنية الإِشْتراع 16: 18-20)، قبل أَنْ تنطلق اجْتماعات اللَّجْنة المُغْلقة...

وقد اخْتُتِمت اجْتِماعات اليَوْم الثَّاني، بسِلْسِلة تَوْصياتٍ، أَكَّد خلالها المُجْتمعون-إضافةً إِلى الملفَّات السِّياسيَّة (عودة الانْتِظام إِلى عَمل المُؤَسَّسات الدُّسْتوريّة في ​لبنان​، الإِسْراع في تَشْكيل الحُكومة، وإِحْلال السَّلام في ​سوريا​، وعَوْدة كَريمة وآمِنَة للنَّازِحين إِلى وَطنهم، واسْتِعادة العِراق عافيَته، وتَحْقيق قِيام دَوْلة فِلَسْطين بِما تنصُّ عليه القَرارات الدَّوْليَّة ذات الصِّلة، ورَفْض قرار إِعْلان القُدْس عاصمةً لدَوْلة الاحْتِلال، ودَعْم اسْتِقْرار الأُرْدن، وتَثْمير الجُهود الحِواريَّة الدَّافِعة في اتِّجاه تَوْحيد جَزيرة قُبْرص)... إِدانَة كلِّ أَشْكال التطرُّف والإِرْهاب، والتَّمنِّي أن يتمَّ التَّعاون بين الكَنائس والمَرْجعيَّات الإِسْلاميَّة لبِناء خطابٍ دينيٍّ قائمٍ على الإِيْمان النَّقيّ بقِيَم المَحبَّة والسَّلام والعدالة الاجتماعيَّة والحِوار، والسَّعي إِلى بلورة خارِطة طَريقٍ لصِياغة هويَّة المُواطنة ضِمْن دولٍ مدنيَّةٍ تَحْترم التَّعدُّديَّة.

وعليه، فبِحَسب "الرُّؤيَة" المُتَّفق عليها للحُلول السِّياسيَّة للنِّزاعات الدَّامية أَو الدَّفينَة على حدٍّ سِواء، يَنْبغي العَمل على تَرْسيخ السَّلام والعَدالة، إِيْذانًا بحلٍّ سلميٍّ للنِّزاعات، يُمهِّد لسَلامٍ حقيقيٍّ لا يُمْكن بِنْيانه بِغير المَحبَّة، وإِلاَّ فعبثًا يَسْعى البنَّاؤون...

ومن مَفْهوم المَحبَّة إِلى العَدالة، الَّتي شَغِل مَفْهومها أَذْهان الفَلاسفة على مرِّ التَّاريخ، إِلاَّ أَنَّه يَبْقى مَفْهومًا غامِضًا، بِخاصَّةٍ وأَنَّ على أَرْض الواقع، تَبْقى العَدالة مُغيَّبةً، أَو إِنَّ العَدالة تُطبَّق إِمَّا جُزْئيًّا، وإِمَّا بحسب مَفْهوم كلِّ إِنْسانٍ لها. والمَفْهومُ يَخْتلف بين إِنْسانٍ وآخر، وبيئَةٍ وأُخْرى، وطَبقةٍ وأُخْرى.

فالعَدالة يُمْكن أَنْ تَحْمل في مَعْناها المُساواة بين الجَميع في الحُقُوق والواجِبات، وأَنْ يَخْضع الكلُّ في شَكْلٍ مُتساوٍ لقَوانين وَضْعيَّةٍ، كأَن نَقول إِنَّ من حقِّ كلِّ مواطنٍ أَنْ يَحْيا بِكرامةٍ فيُؤمَّن له السَّكنُ والتَّعْليمُ والمَأْكَل... ولكن أَيْن العَدالة إِذا ما كان المَسْكن المُؤمَّنُ مِن دون الشُّروط المَطْلوبة أَو إِذا ما كان المَنْهج التَّعْليميّ دون المُسْتوى الفِكْريّ المَطْلوب؟...

غَيْر أَنَّ الطُّغاة بدَوْرهم، كانوا عبر التَّاريخ الطَّويل، على قناعةٍ أَنَّهم يُطبِّقون العَدالة في شأْن الإِبادات الجَماعيَّة، كما وأَنَّ الجَماعات الدِّينيَّة المُتطرِّفة تُؤْمن أَنَّها تُطبِّق العَدالة في "إِقْصاء المُخالف لهم دينيًّا وإِعْدامه"...

رأي لتشرشل

بالنِّسْبة إِلى ونستون تشرشل، إِمَّا "أَنْ تَكون عادِلاً وإِمَّا أَنْ تَكون قويًّا، هو القائِل: "أَجْمع تاريخ البشريَّة على حقيقةِ أَنَّ الأُمِم لا تَكون عادلةً دائمًا عِنْدما تَكون قويَّةً. وعندما تتمنَّى العَدْل، فهَذا يَعْني أَنَّها لم تَعُد قويَّةً".

وفي المُقابِل، يقول جمال الدِّين الأَفْغانيُّ: "أَقْرب مَوارد العَدْل القِياس على النَّفْس"... وتُشاطِرُه الرَّأْي إِليونور روزْفِلت في قَوْلِها: "ليس من العَدْل أَنْ تَطْلب من الآخَرين ما لَسْت أَنْت مُسْتعدًّا لفعله"...

غَيْرَ أنَّ هذا المِقْياس يَبْقى ناقِصًا وغير فعَّالٍ، إِذا لم يَرْتبط بالمحبَّة، ففيها العِصْمَة عن الوقوع في فخِّ الأَنانيَّة، فلا تَنْفتح إِذَّاك على الآخَر... كما ويُمْكن لهذا المَنْطق أَنْ يتَّسع ليَشْمل الجَماعة كلَّها، وحتَّى المَسْؤولين عَنْها: فالحاكِم أَوْ المَسْؤول أو القاضي، أَو أَيُّ شخصٍ موكَلٍ إِليْه تَطْبيق العَدالة، يَنْبغي أَنْ يَمْتلئ مِن المَحبَّة كيما يتمكَّن مِن إِبْقاء إِنْسانيَّته متيقِّظَة في تطبيقِ العَدالة. كما وأَنَّ حُضور المحبَّة في تَطْبيق العَدالة لا يَنْفي الحَزْم والصَّرامة والوضُوح، وكذلكَ يَمْنع المُساوَمات والرَّشاوى والتَّحايل على القَوانين، مانِحًا الكَرامة الإِنْسانيَّة الأَهمِّية الأُوْلى والأَخِيرة، وهذا ما نَسْعى إِليه، وإِلى شَرْحه وتَعْميمِه، من خِلال إِطْلاقنا مِن مَبْنَى بلديَّة سِنّ الفيل، في 6 آب الجاري، النَّسخة الأُوْلى من وَثيقة "بالمحبَّة نَبْنيه" الصَّادرة عن "جائِزة الأَكاديميَّة العربيَّة"، والمُسْتوحاة من "وَثيقة الأُخوَّة الإِنْسانيَّة (أبوظبي)، والمُسْتَنِدَة أَيْضًا إِلى الإِرْشاد الرَّسوليِّ (رَجاء جَديد للُبْنان). وللحَديث صِلة...