ليس مُبالَغاً به القول إنّ رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ شكّل، على امتداد المرحلة الأخيرة، وتحديداً منذ تأليف حكومة "إلى العمل"، ما يمكن وصفه بـ"الحلقة الأضعف" في المعادلة، نتيجة تمسّكه بالتسوية الرئاسية وما أفرزته على الساحة، وعجزه في المقابل عن تحصين حكومته وتحييدها عن المشاحنات السياسية.

تجلّى ذلك بشكلٍ واضح في الأزمة الحكوميّة الأخيرة التي خلفتها حادثة ​قبرشمون​، حين وجد الحريري نفسه مرّة أخرى في موقع "المتفرّج"، لا يقوى حتى على دعوة حكومته إلى الانعقاد خشية انفجارها من الداخل، متسلّحاً بـ"الصبر" لانتظار "الفرج" الذي تطلب 40 يوماً عانت الحكومة خلالها من "الشلل"، وتعرّض هو للسهام من الأقربين قبل الأبعدين.

إلا أنّ هذا الواقع شهد على ما يبدو "خرقاً" من خلال زيارة الحريري إلى الولايات المتحدة، زيارة يحلو للبعض القول إنّ الحريري بعدها ليس نفسه كما قبلها، بعدما عاد "أقوى" ممّا كان، مستنداً إلى "جرعة دعم" تلقاها من واشنطن، موقفٌ قد يؤشر إلى أهميته "الحذر" الذي لاقى فيه بعض الخصوم أصداء الزيارة، ولو بشكلٍ أولي...

زيارة ناجحة؟

منذ ما قبل أزمة قبرشمون، يواجه الحريري ما يصفها فريقه السياسي، بـ"الحملات المشبوهة"، من كلّ حدبٍ وصوب، ومن الأصدقاء المفترضين قبل الخصوم.

تكفي استعادة بعض السجالات التي خاضها الحريري أصالةً، أو "تيار المستقبل" وكالةً، مع كلّ من رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب السابق ​وليد جنبلاط​، ورئيس حزب "القوات ال​لبنان​ية" ​سمير جعجع​، في مرحلة من المراحل، للدلالة على ذلك، معطوفةً على "حروب الصلاحيات" التي خيضت مع "التيار الوطني الحر"، والتي دخلت على خطّها موجة "الاجتهادات" التي أحرجت رئيس الحكومة أكثر من مرّة مع بيئته السنية الحاضنة.

وإذا كانت كلّ هذه المعارك غير المجدية، برأي المقرّبين من "المستقبل"، وضعت الحريري في موقع ضعف، بشكلٍ أو بآخر، فإنّ زيارة الرجل إلى الولايات المتحدة حصّنت وضعه، بل ثبّتت مكانه في قلب المعادلة، متفوّقاً في مكانٍ ما على كلّ محتكري شعار "القوة". من هنا، يعتبر هؤلاء أنّ الزيارة كانت ناجحة بكلّ المقاييس، في الشكل قبل المضمون، بمُعزَلٍ عن كلّ "الحملات" التي أحاطت بها، قبل وأثناء وبعد حدوثها، وهي "حملات" منحتها للمفارقة أهمية استثنائية مضاعفة.

لا شكّ في هذا الإطار أنّ "الحفاوة" التي لقيها الحريري في واشنطن، شكّلت أحد أهمّ عناصر "القوة" في هذه الزيارة، زيارة كانت خاصة بالأساس، فإذا بها تثمر أكثر من زيارات رسمية قام بها غيره في الآونة الأخيرة، كيف لا وقد تمكّن من عقد لقاءين مع وزير الخارجية الأميركي ​مايك بومبيو​، أحدهما في مزرعته الخاصة، فضلاً عن مسؤولين آخرين في الإدارة الأميركية، في وقتٍ عاد من زار الولايات المتحدة أخيراً خالي الوفاض، من أيّ لقاءٍ يمكن أن يُبنى عليه.

"السلبيات" حاضرة؟!

في الشكل، نجح الحريري مرّة أخرى في القول إنّه الشريك القوي الذي لا يمكن الاستغناء عنه، باعتباره عرّاب علاقات لبنان مع المجتمع الدولي، علاقات لا يمكن لأحد أن يكابر، ويدّعي عدم الحاجة إليها، في ضوء الواقع الذي يرزح لبنان تحته، اقتصادياً واجتماعياً، وحاجته إلى أيّ "حصانة" يمكن أن تأتيه من أيّ مكان، خصوصاً أنّه ما زال ينتظر ترجمة الوعود التي تلقاها خلال مؤتمر "سيدر" للنهوض باقتصاده.

وفي المضمون أيضاً، يمكن القول إنّ زيارة الحريري جاءت ناجحة، أقلّه وفقاً لوجهة نظر "المستقبليّين"، الذين اعتبروا أنّ "جرعة الدعم" التي تلقاها الحريري حصّنت موقعه في التركيبة السياسية اللبنانية، وقوّت موقفه بين شركائه في الحكومة، الذين ذهب البعض إلى حدّ اعتبار أنّ الحريري سعى لتصوير نفسه "حصانة" لهم، بمباركة أميركيّة، في ضوء ما يُحكى عن عقوباتٍ تستعدّ الإدارة الأميركية لفرضها، ليس فقط على "​حزب الله​" ورجال الأعمال الشيعة المحسوبين عليه، كما كان يحصل في السابق، بل حتى على حلفائه من المسيحيين، و"التيار الوطني الحر" بشخص رئيسه الوزير ​جبران باسيل​ في مقدّمهم.

ولعلّ اللافت للانتباه أنّه، وعلى الرغم من أنّ الحريري حرص، من خلال مواقفه العلنية التي أطلقها إلى جانب بومبيو، على الحفاظ على "وسطيّته"، حتى في مواجهة "حزب الله"، الذي لم تصدر عنه أيّ مؤشرات "سلبية"، فإنّ الرجل تعرّض لبعض السهام، على غرار ما صدر عن رئيس "الحزب الديمقراطي اللبناني" النائب ​طلال أرسلان​ من انتقاد لما وصفها بـ"الرسائل من خلف البحار"، والنائب ​زياد أسود​ الذي غمز من قناة "التعهدات والالتزامات" التي قد يكون الحريري قطعها في واشنطن، مؤكداً أنّ "ما كُتِب قد كُتِب". وفي حين ربط كثيرون هذه المواقف بالمعادلة التي أطلقها الحريري، لجهة أنّ من يمسّ بجنبلاط يمسّ به شخصياً وبرئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ وبآخرين على غرار "القوات اللبنانية"، فإنّ ثمّة من يخشى على ما يبدو أن تكون بمثابة "تموضع" جديد للرجل، وكأنّه يريد أن يفرض "قواعد اشتباك" جديدة بعد عودته، عبر الاستقواء بالدعم الأميركي، الذي قد يغنيه عن التفاهمات الداخليّة المبرمة، وإن كان "المستقبليّون" يؤكّدون أنّ مثل هذا الأمر غير وارد، وأنّ الحريري يصرّ على إيلاء الجانب الاقتصاديّ أولويته المُطلقة، وهو ينشد التهدئة من أجل ذلك قبل كلّ شيء.

لاقتناص الفرصة

يمكن أن يُقال الكثير حول زيارة الحريري إلى واشنطن، و"المكاسب" التي حقّقها الرجل من خلالها، وأنّه استطاع أن يفرض نفسه شريكاً قوياً لا يمكن الاستخفاف به، أو التقليل من شأنه، وأنّ ذلك يفترض أن ينعكس على الأداء السياسي الداخلي إزاءه، بعيداً عن "الحروب المصطنعة" التي تُشَنّ في وجهه بين الفينة والأخرى.

ويمكن القول في المقابل، إنّ "جرعة الدعم" التي تلقاها الحريري لا يمكن أن تجد أيّ ترجمة في الداخل، باعتبار أنّ التجارب التاريخية أثبتت بما لا يقبل الشكّ، أنّ الاستقواء بالخارج لم يكن يوماً مجدياً، لا على صعيد قلب المعادلات، ولا على مستوى صنع الزعامات، وأنّ التوافق الداخلي يبقى الأساس، من دون أيّ منازع.

لكنّ الأكيد، بين الرأيين المتباينين، أنّ المطلوب من الجميع اقتناص "جرعة الدعم"، إن وُجِدت، للمصلحة اللبنانية العامة، بعيداً عن المصالح الفئوية الضيقة لهذا الفريق أو ذاك، لأنّ الوطن، كلّ الوطن، بحاجة إلى الاستفادة من أيّ فرصة، يمكن أن تقيه من الانهيار الذي يكاد يقع فيه، ويبدو أنّ البعض يعجّل به بدلاً من تفاديه...