أسس في فرنسا وديع الأسمر مع زوجته ماري دوناي سنة ١٩٩٦ منظمة تعنى بالمعتقلين اللبنانيين في سوريا قسرا. وكان المرحوم غازي عاد يمدهما بالمعلومات، وهما ينشرانها في فرنسا بفضل منظمة كبيرة لها فروع عدة في العالم، تدعى "العمل المسيحي من أجل إلغاء التعذيب" (ACAT). وهذه المنظمة أمنت لهما في فرنسا وخارجها، علاقات اجتماعية وإعلامية لا بأس بها، أضيفت إليها الشخصيات المهتمة بلبنان، وأكثرها أمنها لهما غازي عاد وأصدقاؤه. وسألت غازي يومًا: "أنت تقوم بكل العمل وتواجه خطر الموت. وهما مَن يجنيان ثمار عملك على الصعيد الاجتماعي، فيكسبان الشهرة والتهاني والمعارف والمجد خارج لبنان، وحتى المعيشة، وأنت لا تكسب شيء من ذلك، حتى ثمن تعبك." فضحك وقال: "كتير منيح. عم يعطوا معلوماتنا بفرنسا."

وأسس وديع الأسمر وماري دوناي سنة ٢٠٠٦، فرعًا لبنانيا لمنظمة حقوق الانسان العالمية، التي تعد ١٨٤ منظمة في ١١٢ بلد، وتؤمن لها علاقات عالمية بناشطين وإعلاميين في العالم أسره. وماري دوناي كانت مديرة هذه المنظمة، ووديع الأسمر، أمينها العام.

وتعرفت إلى وديع الأسمر عندما كنت أجري مقابلات نشرتها في كتابي "المخطوفون اللبنانيون في السجون السورية، كتاب مفتوح إلى الرئيس بشار الأسد"، الذي صدر في بيروت سنة ٢٠٠٨ باللغتين الفرنسية والعربية.

وكان لنا حديث إيجابي قرب خيمة المخطوفين أمام مبنى الإسكوا. وذكرت وديع، وزوجته، ومؤسستهما، مرات عدة في الكتاب. وتسلم وديع الأسمر نسخة من كتابي، قد أعطاه اياها المرحوم غازي عاد.

من المفترض إذًا أن يتذكرني وديع الأسمر، وأن يعلم بأمرين يدلان على أن حياتي في خطر يومي منذ صدور كتاب المخطوفين.

وديع يعلم مثلا، أن التكلم على المسؤوليات في قضية المخطوفين يضع الإنسان في دائرة خطر الموت، إن لم يكن مدعوما من قبل الصحافة ومنظمات حقوق الإنسان في العالم. والخوف يحيط بهذا الأمر إلى حد جعل أهل المخطوفين يرفضون، في معظمهم، البوح بما يعلمون. وكتابي يعرّضني الى ما يخشونه، إذ يفضح عظماء الإجرام في حرب لبنان، الذين كانوا أداة للمحتل الفلسطيني والسوري. أيديهم ملطخة بالدماء البريئة، وهم لا يزالون قادرون على الأذى، على عكس المسؤولين السورين الذين ماتوا (وهم حافظ الأسد، غازي كنعان، مصطفى طلاس، حكمت الشهابي) أو الذين أزاحهم بشار الأسد (وهم رفعت الأسد وعبد الحليم خدام). فلا يعقل اتهام بشار بجرائم ارتكبها أعداؤه ووالده. أما المجرمين اللبنانيين، فهم على قيد الحياة، أقوياء في لبنان، وقادرون على القتل. لذا لا يجرؤ أحد على مواجهتهم. وهم مَن خطفوا مواطنيهم وسلموهم إلى السلطات السورية. وفضحتُ خطة عبد الحليم خدام السوري في كل ذلك. وخدام قاتل، وهو المسؤول الأول في لبنان عن الاغتيالات والمجازر وخطف ١٧٠٠٠ لبناني وإخفائهم قسريا. وقد استعمل الخطف كأداة قمع، تعلمها من الوزير الألماني النازي هملر. كما أن خدام هو المسؤول عن مجزرة حماه في ثمانينيات القرن الماضي.

​​​​​​​

وبعد طلاقه من ماري دوناي وإخلائها الساحة اللبنانية، وبعد موت غازي عاد، أصبح وديع الأسمر أول في لبنان من يمد منظمات حقوق الانسان العالمية بالمعلومات. وهو المسؤول الأول عن عظمة الحملات الإعلامية العالمية التي تقام لتحقير لبنان باسم حقوق الانسان. وأنا طبعًا أريد احترام حرية الفنانين الذين يدافع عنهم. لكني أريد احترام حقوق كل إنسان، من دون تمييز. وهذا ليس موجودًا، بما أن وديع الأسمر يعطي أكثر أهمية بكثير، لإلغاء سهرة، مما يعطي لسلامة مناضلة في حقوق الإنسان، حياتها في خطر منذ ٢٠٠٨، ولا سيما لأنها هي الشخصية الوحيدة التي تجرأت على إحراق علم داعش علنًا. ولا يخفى على وديع الأسمر أن فضحي لخدام ومجرمي الحرب اللبنانين، شكل خطرًا يوميا على حياتي منذ عام ٢٠٠٨، إضافة الى الاضطهاد الخافت الذي لا يقتل، إنما يعيق العمل ويقفل أبواب الفرص.

وهل يوجد أناس يستحقون أن يُدافَع عنهم، وغيرهم لا يستحقون لأسباب سياسية أو دينية؟ فالنفترض افتراضا أن فتح الإسلام أو إحدى المنظمات المشابهة، قررت إلغاء سهرة ترنيم مسيحي، أو منع قرع الأجراس في مكان إذا حان وقت الصلاة في الجامع المجاور، فهل يقوم وديع الأسمر بحملة عالمية دفاعا عن حق المسيحيين بالتعبير عن رأيهم؟ تصرفه تجاه قرار أشرف ريفي وزير العدل وحرق بعلم داعش، يدل على العكس.

حرقي لعلم داعش

قال وديع الأسمر إنه أثار موضوع حرقي لعلم داعش في حينه. لكن الذي فعله لم يكن شيئا إزاء مقاطعة وسائل الإعلام اللبنانية الكبرى، ويبدو أن الصحافة الأجنبية لم تعلم شيئًا.

في ٣٠ آب ٢٠١٤، كان لبنان في غاية التوتر، لأن داعش ذبحت الجندي اللبناني علي السيد، ونشرت الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، وهددت بذبح الجنود الآخرين الذين في سجونها. وكان وزير العدل أشرف ريفي قد طالب، في اليوم نفسه، "بالسجن وإنزال أشد العقوبات" بالشبان الذين أحرقوا هذا العلم، وبكل من يفعل ذلك. كان هذا الحكم سابقة تعني انتصارا معنويا لداعش في لبنان. ففار البلد غضبا. لكن الخوف كان يعم، ولم ينظم أحدا أي تظاهرة في الشارع للتضامن مع الشبان، وعلى أمل حمايتهم من السجن. وحده شربل خليل كتب جملة فكاهية أثارت غيظ الإسلاميين. والآخرون لم يتحركوا. فأمضيت نهاري أحاول جمع مجموعة للتظاهر وإحراق علم داعش في الشارع. بغية ذلك، وضعت صورة الشبان على صفحتي في مواقع التواصل الاجتماعي. لكن من دون جدوى. وقبيل المساء، لم تعد التظاهرة في الشارع ممكنة، وكان من الضروري فعل شيء في اليوم نفسه، قبل أن ينسى الناس قرار أشرف ريفي. فاتصلت ببعض الأصدقاء وقلت لهم: "يجب علينا إحراق هذا العلم ونشر صورنا على مواقع التواصل الاجتماعي، فذلك يوازي تظاهرة في الشارع. قولوا للناس أن يفعلوا ذلك. وأنا سأفعل ذلك." فأحرقت هذا العلم، ونشرت صورتي كما قلت. لكن الناس نشروا صورتي بدلا من أن ينشروا صورهم. فصرت وحدي في وجه ريفي، بالإضافة إلى الشبان... وهم مجهولون، لا يخشون سوى الدولة اللبنانية. أما أنا، فمكشوفة الوجه، واسمي معروف، ويستطيع أي مجرم أن يدركني في الشارع. والصمت الإعلامي يسمح لريفي بسجني من دون أن يعلم الشعب.

​​​​​​​

قضية حرقي علم داعش كانت إنسانية بامتياز، نتيجتها ستؤثر على مصير حرية الرأي في لبنان، إضافة الى خطر اعتقالي والشبان في سجون مكتظة بالإسلاميين. لذا كان من الضروري نيل دعم الرأي العام. فكان على منظمات حقوق الانسان إنذار العالم الغربي كي يضغط معي على أشرف ريفي لإرغامه على التراجع عن حكمه على الشبان.

لكن الضجة لم تثر في مكانها. وتناقلت الصحف الغربية صورتي من دون تسميتي، وركّبت عليها روايات خاطئة، لا أثر فيها لقصة الشبان أو لقرار أشرف ريفي التعسفي. لكن الناشطين اللذين يكتبون في صحف إلكترونية بالعربية، أخبروا ما جرى، ونشروا صورتي واسمي. فعلمت صحف "البلدان العربية" بما يجري، فنشرت الخبر جريدة الأهرام مع اسمي. وثار قسم من الشعب اللبناني معي بكل طوائفه. ودفاعه عني هو الذي ضغط على أشرف ريفي. فلم أسجن، ولم يسجن الشبان، وخسر أشرف ريفي أهميته السياسية على الصعيد الوطني، فلم يعد مرة إلى الحكومة.

وسائل الإعلام كانت مهددة بالإقفال إذا تحدت الوزير ريفي. لذا صمتت عن الخطر الذي يحدق بي. أما وديع الأسمر، فما الذي كان يهدده؟ كان عليه إعلام العالم باسمي وبخطر السجن والتعذيب الذي يهددني، إضافة إلى مئات التهديدات بالقتل والاغتصاب، وغيرها، التي أمطرتني بها داعش والنصرة والجيش السوري الحر على مواقع التواصل الاجتماعي، في شكل علني، وهي ليست بعيدة من مدينتي. فكان من يكتب اسمي على تويتر مثلا، يجد صفحات من تغريدات التهديد، ويرى أن بعض التغريدات شاركها أكثر من ألف شخص.

وأصبح الأمر فكاهيا عندما قرر شبان إحراق هذا العلم أمام المتحف.

نعم، قرروا إحراق علم داعش... إنما في الليل، خاف بعضهم. فألفوا علما آخر كتبوا عليه "لا إله للإرهاب" وأحرقوه. وصوّرهم الصحافيين الغربيين باندهاش، وهم لا يدرون أنه ليس علم داعش، وأن عملهم يسر داعش. ولم يستغربوا هدوء الجنود والدرك بعد إعلان الوزير...

صمت وديع الأسمر وعدم بوحه بالحقيقة، أنتج مقالات مضحكة بالنسبة الى كل لبناني كان يعلم بقرار ريفي. ففي ظروف الحرب، تتلقى الصحف الأجنبية المعلومات من ناشطي حقوق الإنسان. وإذ لم يعلموا بما جرى، فلم يفهموا لماذا قرر كل الناس حرق علم داعش. وبما أنهم لا يعرفون من أنا أو أسبابي، تناقلوا صورتي من دون مهمها.

والشكر للمحبين، فأنا لا أزل حية أرزق بعد خمس سنوات، بالرغم من سكوت وديع الأسمر عني. فلو قال اسمي للصحافيين الفرنسيين الذين يتعاطى معهم، أو لو تكلم على الشبان وعلى أشرف ريفي وقراره التعسفي، لهب العالم معنا، ولما نعتتنا الصحافة الفرنسية بـ"المسلمين الذين قرروا الثورة على مواقع التواصل الاجتماعي في شكل لعبة" فحرقوا بعلم داعش.

على عكس جريدة الأهرام المقال الذي نشرت الخبر الصحيح مع اسمي (لكن من دون صورتي) في اليوم الذي تلا حرقي للعلم. فمراسل الأهرام في بيروت، يتكلم العربية، وليس بحاجة الى ما يقوله (أو ما يقوله) وديع الأسمر. فهو يرى بنفسه أن الأمر من نطاق حقوق الانسان محض. على عكس الصحافيين الفرنسيين الذين كانوا يطلبون معلومات وديع، التي كان يمدهم بها إذا أراد... ويحتفظها لنفسه إن لم يرد ذلك.

وبعد بضعة أشهر، في آذار، ثار الثورة الكبرى وديع الأسمر وماري دوناي، لكن لمصلحتهما الخاصة، لا من أجل حقوق الإنسان. كان القضاء اللبناني قد حكم عليهما بالسجن سنة (وليس بـ "أشد العقوبات" كما أمر أشرف ريفي متحدثا عن حارقي علم داعش). فقام وديع الأسمر وماري دوناي ضد الدولة اللبنانية ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، بالتجييش الذي كان عليهما أن يقوما به ليدافعا عن الشبان الذين حكم عليهم بعقوبة سجن طويلة، وهم دون سن العشرين.

وهذا التجييش الإعلامي العالمي أمّن لوديع وزوجته، نيشانا لـ"شجاعتهما"!.

فما أسهل الحرب على نبيه بري والقضاء اللبناني! وما أصعب الحرب على داعش!.