تركَّب القصة الكاذبة بسرد الحقيقة مجزّأة، يستثنى منها أمر أساسي، ويضخم فيها أمر صغير، يتسلط عليه الإعلام، فيبدو هو كل الصورة. وهذا ما يحدث الآن.

خذ مثلا الحملات الإعلانية ضد لبنان التي تدور حول أمور تهم أقليّة جد قليلة من اللبنانيين، خصوصًا في أجواء ازدياد الفقر، والخوف من الحرب. فقد عرفوا حرب ٢٠٠٦ مع إسرائيل، واعتصام ٢٠٠٦-٢٠٠٧، ويوم ١٠ أيار، وذبح فتح الإسلام لـ٢٠ جنديا لبنانيا من بينهم ضابط، وحرب نهر البارد التي استمرت أشهر، وعواقب حرب سوريا على لبنان منذ سنة ٢٠١٠، واعتصام أحمد الأسير والحرب في صيدا، واحتلال داعش والنصرة لجرود عرسال، سنة ٢٠١٤، وأسرهما الجنود والدرك وإخفائهم القسري الذي أقلق كل البلد، والانتخابات النيابية التي ألغيت وتجديد النواب لأنفسهم، وتظاهرات "طلعت ريحتكن"، والانتخابات الرئاسية التي انتظرها الشعب أكثر من سنة، وتشكيل الوزارة الذي دام أشهر، وتدفق النازحين السوريين والخوف منهم بعد ما حدث في نهر البارد، والحروب الداخلية في المخيمات الفلسطينية، والحرب والانتصار لاسترجاع عرسال سنة ٢٠١٧، واعتصام الأساتذة مرات عدة، لأشهر كل مرة، وأخيرا عطل ٧٠،٠٠٠ طالب جامعي ستة أسابيع، ما سبب قلقهم وقلق أهلهم، إضافة لإضرابات واعتصامات لا تعد، وإلى شبح الجوع الذي يحوم على عدد من اللبنانيين يزداد كل يوم، مهددًا خصوصًا الطبقة الفقيرة التي تشكل الأكثرية. والإرهاب موجود، فقد يبلى لبنان بحرب جديدة في أي يوم.

وفي ظل كل هذا، كم من لبناني كان مهتما بسهرة منعت أو لم تمنع في جبيل لجوقة لم يكن إجمالا يعرفها، وعلى أي حال، لا يستطيع أو لا يريد دفع ثمن بطاقة للدخول إليها؟ سهرة في لبنان، حيث الحرب والألم والجوع، ليس كسهرة في أوروبا، حيث لا حرب، ولا جوع تقريبا.

تم تضخيم أمر هذه السهرة إلى حد جعلها تبدو في نظر العالم، وحتى في نظر قسم من اللبنانيين، وكأنها مصيرية لحقوق الإنسان في لبنان. بيد أن عددا كبيرا من المسيحيين لم يشعر بذلك. صحيح أنهم يؤمنون بأن يسوع هو الله. ولكنهم يقولون إنه أيضًا إنسان، وإنه تألم كإنسان، وإنه، كإنسان، حُكم عليه بالموت من أجل حرية الرأي والتعبير. فذاق شتى أنواع التعذيب، ومات وهو يعاني آلام فظيعة.

أنا لا أوافق ممارسة الضغوط، لأني أعتبرها علامة ضعف. فالحقيقة تستطيع أن تدافع عن نفسها. لكني لا أفهم منظمات حقوق الإنسان. يقولون إنهم يدافعون عن المظلومين، ويرفضون إهانتهم. فلماذا يحرمون المسيحيين من حق الدفاع عن أحد البشر المظلومين؟ وهل يحرَم إنسان من صفته كضحية إذا كان اسمه "يسوع الناصري"؟.

إضافة إلى ذلك، تعليم هذا الإنسان هو الغفران ومحبة القريب والغريب، ومحبة الأعداء. فهل يوجد شيء مضرّ للبشرية في ذلك التعليم، في نظر المناضلين في حقوق الإنسان؟ فالذي يسمعهم ويقرأ إعلامهم، يظن أن الدواعش أصبحوا خرفانا وديعة، أو أنهم تلاشوا من الوجود، فلم يعد في الساحة اللبنانية من شرس ورجعي سوى المسيحيين لأنهم رفضوا إهانة يسوع ورسله الذين كانوا أيضًا (باستثناء يوضاص) ضحايا التعذيب والاعتقال القسري، والقتل، لأنهم مارسوا حرية التفكير. فهل الرجعية تقضي برفض السخرية من الأناس الذين تلقوا التعذيب وماتوا من أجل أفكارهم في ظل إمبراطورية رومانية تشبه أشد الأنظمة القمعية اليوم؟

أنا أكره الشتائم والتهديد. وأشمئز منها. مع ذلك، هل يعقل إعطاءها أهمية على نطاق عالمي إذا صدرت عن أهل جبيل، وليس إذا صدرت عن النصرة وداعش والجيش السوري الحر؟ وقد ذكرت في مقال الأمس التهديدات التي أمطرتها بي داعش والنصرة والجيش السوري الحر. وذكرت أيضًا أن منظمات حقوق الانسان لم تعطِ أهمية لهذه الشتائم ولم تذكرها. ووديع الأسمر، رئيس منظمة حقوق الإنسام في لبنان، وصف تصرفات أهل جبيل بـ "الميليشياوية". وهل كان صيت أهل جبيل بالإجرام يشبه بصيت داعش والنصرة (أي القاعدة)، وبصيت الجيش السوري الحر؟ إذا كانت ضغوط أهل جبيل المتصفون بسهولة معاشرتهم، "ميليشيوية"، فماذا يقول وديع الأسمر عن الضغوط التي مارستها علي داعش والنصرة اللتين تقتلان بالجملة، وكانتا تحتلان جزءًا من لبنان حين أحرقتُ علم داعش والقاعدة، متحدية وزير العدل أشرف ريفي. وفعلت ذلك لسبب إنساني محض: التضامن مع مراهقين وعدهم بالسجن و"أشد العقوبات" لأنهم حرقوا بهذا العلم. وديع الأسمر يعلم أن الإرهابيين لا ينسون عملا كهذا، وسينتظرون وقت الانتقام. ما يعني أني سأكون كل يوم في خطر. كان إذًا من واجبه كناشط في مجال حقوق الانسان، متابعة أمور المرأة التي هي الأكثر عرضة للخطر في لبنان، أكثر من أخبار روائح القمامة والحفلات الموسيقية.

لم أفضح منع كتابي في لبنان، بسبب ضغط من دار الإفتاء. صمتت لأتمكن من الاستمرار.

أما الآن، فلم أعد أبالي، فقضية سمعة لبنان أكبر من كتبي، وأكبر مني. لا أقبل أن أرى لبنان مهانًا عالميًّا لأن بعض الناس قرروا نفخ قضايا البعض على حساب قضايا الشعب المصيرية. كان عليّ أن أفعل شيئًا، لكني كنت على فراش الألم بعدما سقطت في الطريق. فسجلت شريط فيديو أتوجه فيه إلى سماحة المفتي وإلى علماء دار الإفتاء، ومنظمات حقوق الانسان. ونشرت هذا الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي .

فقررت مواجهة السلطات اللبنانية الآن بالتحديد، بسبب التجييش الإعلامي الذي قام به وديع الأسمر ومنظمات حقوق الانسان والصحف الأجنبية التي يمدها بالمعلومات، حول إلغاء حفلة "مشروع ليلى"، حوّلها الى قضية دولية. ونُعت لبنان في الصحف العالمية بـ"الرجعي"، بالأخص منه الموارنة. هل من حقوق الإنسان إهانة رجل مات تعذيبِا كما هو أمر يسوع؟ هل تهين منظمات حقوق الإنسان سمعة الذين تتحدث عنهم وقد ماتوا تعذيبًا؟ هل يقبل الغرب بالإساءة إلى سمعة الضحايا بعد موتها؟ حقًا يسوع هو إلهًا بالنسبة إلى المسيحيين، ويمكن تصديق ذلك أو عدم تصديقه. هذه حرية الرأي. لا تقضي حرية الرأي بالسخرية من إنسان وتعاليمه، ولو مات.

وقيل إن هذه السهرة منعت. وهي لم تمنع. والدليل على ذلك هو أنها أقيمت في بيروت، في الحمرا. ألغيت في جبيل، ويحق لأهل جبيل ألا تقام في أرضهم حفلات لا يرضون بها. هم أيضًا لهم حرية الرأي. وقارنت الضجة التي تثار حول موضوع "مشروع ليلى"، بالصمت الذي يحيط بمنع كتابي لأنه يفضح الإسلاميين. أما كتبي التي تفضح السلطات الدينية المسيحية، أكانت كاثوليكية أم أورثوذكسية، فلم تمنع.

كذلك، لاحظت أن منظمة أمنستي إنترناشونال تضع منع مشروع ليلى على مستوى جلد السعوديين لرائف بدوي، وقطعهم لمئات الرؤوس، بمن فيهم الشيوخ والأطفال، لكنها تسكت عن الحفلات الممنوعة كل يوم في السعودية، وتسكت عن جلد مئات الأشخاص سنويًّا لأسباب تافهة، منها إبراز صليب أو التلفظ بصلاة مسيحية. ولأن رائف بدوي دافع عن حقوق المسيحيين وطلب لهم المساواة مع المسلمين في السعودية، وطلب ألا يبنى جامعٌ قرب مكان انفجار أبراج مبنى التجارة العالمي في نيويورك، وسخر ممن يرفض فكرة دوران الأرض حول الشمس، حكم عليه بالإعدام أولًا، ثم بالجلد والسجن ودفع مبلغ من المال لا يستطيع دفعه. أين حقوق الإنسان من هذا التمييز؟ فيبدو لبنان كأنه موطن التخلّف، وهو أمل المضطهدين في الشرق. وتبدو السعودية كأنها بلد الانفتاح لأنها أذنت للنساء بقيادة السيارات.

لم يقل رائف بدوي السعودي إن بلده منفتحا. قال إنه متخلف، بسبب تعليم الأئمّة الوهابيين. ولم يقل إن لبنان متخلّف. ولم يسخر من لبنان، ولم يكره لبنان، ولم ينتقد لبنان. أما المدافعون عن "مشروع ليلى"، فقد فعلوا العكس. هل هم يدافعون عن حقوق الإنسان، ورائف بدوي يدافع عن الرجعية؟ .

ووديع الأسمر، رئيس شبكة أوروميد لحقوق الانسان التي تضم أكثر من ٨٠ منظمة من ضفتي المتوسط، ورئيس المركز اللبناني لحقوق الانسان، يعمل في مؤسسة "معلوماتية قطر" منذ ٢٠١٨ ويسكن في قطر. لكن وديع الأسمر لا ينتقد قطر. ما يعني أنه ¬في نظره، قطر تحترم حقوق الانسان ــ وهي تقطع الرؤوس، وتجلد المثليين، وتجلد المسلمين إذا شربوا كأسا من الخمر، وتحكم على المرتدين بالقتل، وتسجن الشعراء الى الأبد إذا انتقدوا الأمير، وتجلد من يمارس الجنس خارج الزواج، وتمنع المسيحيين من إظهار صليب أو تمثال خارج كنيستهم، أو من قرع الأجراس. أما لبنان، فلا يحترم حقوق الانسان، لأنه يعاني من مشكلة النفايات، ولأن أهل جبيل تذمروا من إقامة سهرة.

كان يمكن الدفاع عن جماعة "مشروع ليلى" من دون تحقير الآخر وتحطيمه. وهذا الحقد، وهذه السخرية، وهذا الاستفزاز، تذكرني كلها بالوسائل التي استخدمها الفلسطينيون لتحطيم معنويات اللبنانيين والإساءة إلى سمعتهم في الخارج، فيغدون من دون صديق حين يضرَبون. وكانت نتيجة هذه الخطة سفك دماء كثيرة وتحطيم وطننا.

وسألت نفسي إذا كان يحق لي بالسكوت إزاء هذا التمييز بين الناس بحسب ديانتهم، أو بحسب الديانة التي يتكلمون عليها؟ لماذا تعتبر الإساءة الى المسيحية أمر طبيعي، فيرغم المسيحيون على السكوت باسم حرية رأي الآخرين؟ وإذا تذمروا، أصبحوا ضد حقوق الإنسان. أما إذا رائف بدوي أو فرج فوده، أو أنا أو غيرنا ذكر نصوص ديانات أخرى، فهذا ليس مسموحا ويوضع المرء في السجن، أو يقتَل، أو يمنع كتابه.

فلا استفزاز ولا كره ولا حقد في كتابي ولا في كلامي. أحب المسلمين من كل قلبي، وهم يعرفون ذلك منذ زمن طويل. ولأني أحبهم، أقول لهم الحقيقة. لا أفرضها عليهم، بل أعطي البراهين المقتبسة من مراجعهم وليس من مراجع طائفتي.

الحقيقة تجرح. لكن إن كنت تقولها عن محبة واحترام وليس استفزازًا، يفهمك الناس، فيقتنعوا، أو لا يقتنعوا. هذه هي الديمقراطية. هذه هي أهمية لبنان. هذه هي المحبة بين الطوائف، التي صنعت لبنان. وهذه هي حرية الرأي.