لم تنجح الكلمات المنمّقة للرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ والتي اشاد فيها ب​الدنمارك​ وبرئيسة وزرائها فيها ميتّي فريدريكسن (Mette Frederiksen)، من تخفيف غضب الدنماركيين وسكان جزيرة غرينلاند (ذات الاستقلال الذاتي والتابعة لمملكة الدنمارك)، جراء قراره تأجيل زيارته الى هذا البلد بعد ان رفضت فريدريكسن فكرته شراء جزيرة غرينلاند.

وفي وقت يمكن فهم اسباب الغضب الدنماركي، كونه يشكّل اهانة للملكة مارغريت الثانية -التي وجّهت الدعوة لترامب- وللدنماركيين جميعاً، اضافة الى ان العلاقات التي تربط البلدين جيدة وليس هناك من سبب لتراجعها او توتيرها، فإنّ الاسباب التي دعت الرئيس الاميركي اصلاً الى عرض فكرته نابعة من اسباب عدّة، انما وفي مطلق الاحوال، ظهر ان ترامب بعيد عن الدبلوماسية والسياسة كالمسافة بين الارض والسماء.

لطالما كانت غرينلاند قبلة اهتمام للاميركيين، وهم كانوا عرضوا شراءها عام 1946 خلال عهد الرئيس هاري ترومان الذي جوبه بالرفض، وربّما اعتقد ترامب ان بامكانه اعادة احياء مسألة بيع اراض دانماركية لبلاده كما حصل عام 1916 حين باعت ما يعرف اليوم بـ"الجزر العذراء". الا انّ تصرّفات ترامب الخاطئة وغير الدبلوماسيّة، كشفت بعض الاسباب الكامنة وراء حماسته لشراء الجزيرة الاكبر في العالم، رغم ان قسماً كبيراً منها مغطى بالجليد:

1-تشكل الجزيرة منطقة استراتيجية عسكريّة للولايات المتحدة، حيث كانت قاعدة في الحرب العالمية الثانية لمراقبة التحرّكات البحريّة للجيش الالماني نحو الاطلسي، اضافة الى اعتمادها ايضاً عام 1943 كمقر لقاعدة جويّة اميركيّة خلال "​الحرب الباردة​" كمنطقة رصد لاي هجوم سوفياتي. ولكن في ظل التطور التكنولوجي والاقمار الصناعية، قد يعتبر البعض انّ الحاجة الى قواعد مراقبة بات من الماضي، ولكن الرأي يختلف حين يدرك هؤلاء ان القواعد لم تعد تصلح فقط للمراقبة، بل كخط دفاع اول، وكمركز تدخل سريع في المنطقة.

2-يعتبر ترامب ان النشاط الروسي والصيني ينمو بشكل مضطرد، وان الاهتمام الصيني بالمنطقة من خلال "طريق الحرير" قد يفتح العين على اهميّة غرينلاند، علمًا ان الصينينين يتواجدون هناك بشكل غير رسمي عبر مؤسسات مدنيّة اثارت القلق في نفوس الاميركيين الذين عمدوا الى "اغراء" الدنماركيين للتخفيف من التعامل مع المارد الآسيوي.

3-من المعروف عن الجزيرة انّها غنية بتربتها والمعادن الارضيّة، كما انّ العوامل الطبيعيّة والتغيير المناخي يؤثّران عليها بحيث يستمر ذوبان الجليد بشكل كبير، ما يؤشر الى امكان اعتماد طرق بحريّة جديدة بعد سنوات قليلة، اذا ما استمر الحال على ما هو عليه في الشأن المناخي، وهو امر بالغ الاهميّة بالنسبة للدول الكبرى التي تتصارع لبسط نفوذها وسيطرتها في المنطقة.

4-ادّت خطوة ترامب الى تعزيز الروح الوطنيّة بين الدانماركيين وسكّان الجزيرة، ويعتقد الكثيرون ان الامر ساهم في ابعاد ايّ فكرة حديثة لطرح فكرة الاستقلال، وان موقف فريدريكسن الصارم حيال طرح الرئيس الاميركي، يعبّر عن تضامن عميق، اذ قالت رداً على العرض: "الحمد لله ان زمن شراء وبيع دول اخرى وشعوب اخرى قد ولّى". هذا الجواب بذاته كان كفيلاً بشدّ العصب وتقريب الجميع من بعضهم، وزيادة اللحمة بين المملكة والجزيرة التي من الصعب ان تطالب في المدى المنظور باستقلالها بعد هذا الموقف.

اجواء الصقيع في الجزيرة اصابت ترامب بنزلة باردة على ما يبدو، حتى ولو انه لم يزرها، لكن نتائجها قطعت المسافات ووضعت علامات شكّ كبيرة حول طريقة الرئيس الاميركي الحالي في التعامل مع دول صديقة وحليفة، وزادت القلق حول الاسلوب المتّبع في التعاطي بين ​اميركا​ و​اوروبا​ على وجه الخصوص، في ظلّ عدم تقبّل قادة دول القارّة العجوز لهذه التصرفات "الترامباوية".