في عمليات عسكرية نوعية خاصة افتتحت «إسرائيل» مرحلة جديدة من المواجهة مع المقاومة ومحورها، مرحلة عنوانها إسرائيلياً «العمليات الحربية والأمنية المحدودة» التي تنفذ تحت سقف لا تنزلق منه الى حرب ليست «إسرائيل» جاهزة لها في ظلّ الظروف القائمة في المنطقة. وفي سياق هذه العمليات استهدفت «إسرائيل» وبالإضافة الى ما تقوم به في غزة، استهدفت الحشد الشعبي في العراق لأول مرة منذ قيامه، وبعد الإعلان عن استيعابه في إطار القوات المسلحة العراقية الرسمية، كما استهدفت العمق اللبناني ومقاتلين لحزب الله في سورية، فضلاً عن زعمها بأنها وجهت ضرباتها أيضاً الى الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس في سورية، في تصرف ينبئ بأنّ هناك تطوّراً جديداً على صعيد المواجهة بين «إسرائيل» وأعدائها، فما خلفية هذا التطور وما هي نتائجه؟

من يدقق في المشهد يجد انّ «إسرائيل» اتجهت الى «العمليات العسكرية والأمنية المحدودة» بخلفيتين أساسيتين، الخلفية العامة المتصلة بهزائم متتالية أنزلتها المقاومة ومحورها بمعسكر العدوان على المنطقة، والخلفية الشخصية المتصلة بنتنياهو ومستقبله في «إسرائيل» التي ستقرّر في الانتخابات بعد 3 أسابيع اين سيكون موقعه: فهل يكون السجن بتهم الفساد أو رئاسة الحكومة بنتيجة الانتخابات؟

اعتمد نتنياهو هذه الاستراتيجية لأنه أراد ان يظهر قوّته في معسكره ويرفع حظوظه في العودة الى رئاسة الحكومة بعد الانتخابات المبكرة في الشهر المقبل، فاعتمد على الجيش الإسرائيلي لينشر له بالنار صناديق الاقتراع في سورية ولبنان والعراق، ويشنّ عمليات عدوانية ضدّ قوى محور المقاومة بشكل عام وضدّ حزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي والحرس الثوري الإيراني والجيش السوري، واعتمد في خطته العدوانية تلك على سلاحين: الطائرات المسيّرة المسلحة بالذخيرة والمتفجرات التي يمكن إلقاءها على الهدف أو يمكن إجراء عمليات اغتيال بها، والصواريخ التي تطلقها الطائرات الحربية من خارج الحدود السورية حيث تتمركز منظومة دفاع جوي أثبتت فعاليتها المؤكدة في مواجهة الأهداف الجوية.

وضع نتنياهو خطته العدوانية تلك وشرع بالعمل بها مباشرة بعد أسبوعين أعقبا القرار بإعادة الانتخابات المبكرة التي تقرّرت بعد فشله بتشكيل الحكومة، ولأنّ نتنياهو كان قد صرف في الانتخابات المبكرة الأولى معظم الأوراق الاستراتيجية التي توفرت له، فقد كان بحاجة الى ورقة كبيرة دسمة يوفر له استعمالها فرصة أكيدة في الفوز بالانتخابات، وبدا له انّ الورقة العسكرية الأمنية هي الأهمّ فاتجه لما يدغدغ الشعور الإسرائيلي كما يعتقد ورفع شعار «لا حصانة لإيران في أيّ مكان» ووضع خطة عملية أمنية محكومة بحدود ثلاثة: الأول تجنّب الاحتكاك بالقوات الإيرانية مباشرة لاعتقاده بأنّ الردّ الإيراني سيكون قاسياً ويطيح بمكتسباته، الثاني استهداف الفصائل الحليفة او المرتبطة بإيران ممنياً النفس بعدم قدرتها على الردّ أو ضعف ردّها إذا حصل، الثالث تجنّب الانزلاق الى حرب إقليمية لأنّ أيّ حرب تقع ولا تربحها «إسرائيل» ستطيح به.

وبمقتضى هذه الخطة افتتح نتنياهو مرحلة جديدة من المواجهات تختلف في ميدانها ووسائلها عما سبق، واتجه الى الاعتماد على الطيران المسيّر والصواريخ من خلف الحدود ولم يجد حرجاً في الذهاب الى العراق حيث استهداف الحشد الشعبي او توجيه نيرانه الى مواقع في سورية اعتاد على قصفها منذ بدء العدوان عليها قبل 8 سنوات لكن مأزقه الأهمّ كان مع حزب الله في لبنان لأنّ استهدافه بالشكل الذي يبتغيه سيعيد فتح ملفات خطيرة عنوانها «قواعد الاشتباك» ومعادلة الردع الاستدراجي القائم منذ العام 2006. ورغم هذا استخف نتنياهو بالمخاطر وفعل فعلته ضدّ حزب الله في اعتداء سافر على الضاحية الجنوبية أعقبت اعتداء على مركز للحزب في سورية أدّى الى استشهاد اثنين من الحزب.

شكل العدوان الإسرائيلي بمقتضى خطة نتنياهو الحربية الأمنية الجديدة انقلاباً على قواعد الاشتباك التي أرسيت بين «إسرائيل» وحزب الله في لبنان منذ العام 2006، تلك القواعد التي كانت تقوم على 5 قواعد هي:

1 ـ عدم قيام «إسرائيل» بأيّ عمل عسكري حربي ضدّ حزب الله أو سواه في لبنان،

2 ـ عدم قيام حزب الله بأيّ عمل مقاومة عبر الحدود اللبنانية الفلسطينية،

3 ـ حق المقاومة التي يقودها حزب الله بالقيام بعمليات مقاومة في مزارع شبعا للتأكيد على أنها أرض محتلة والحث على إيجاد حلّ لها،

4 ـ عدم إنشاء مراكز عسكرية ظاهرة في منطقة جنوبي الليطاني والى الحدود،

5 ـ اضطلاع الدولة اللبنانية بمسؤولياتها للحفاظ على السيادة اللبنانية خاصة في الجو والبحر واستثمار الثروة الطبيعية بكلّ أصنافها المائية والنفطية.

وبمقتضى هذه القواعد ساد الهدوء في منطقة جنوب لبنان الذي تحوّل الى واحة أمنية مميّزة حيث لم تسجل فيه وخارج مزارع شبعا أيّ عملية مواجهة عسكرية بين «إسرائيل» والمقاومة لمدة 13 عاماً متواصلة رغم ما حصل في سورية وانخراط حزب الله في الحرب الدفاعية عنها.

ساد الهدوء اذن لبنان لأنّ «إسرائيل» التزمت بعدم الاعتداء الناري او استهداف أيّ مرفق أو شخص في لبنان عامة وحزب الله خاصة، رغم انّ الدولة اللبنانية عجزت عن حماية سيادتها واستمرت «إسرائيل» في خرق الأجواء اللبنانية بطيرانها المتعدّد الأشكال والمهام حربي واستطلاع ومسيّر ونفاث كما استمرّت «إسرائيل» في احتلال أجزاء من الأرض اللبنانية في مزارع شبعا والغجر ونقاط أخرى تريد قضمها.

كسرت خطة نتنياهو الجديدة إذن قواعد الاشتباك تلك، وخرقتها في البند الأساسي والرئيسي لا بل العمود الفقري لها، حيث نفذت «إسرائيل» فجر 25 آب الحالي محاولة اغتيال ضدّ أحد اللبنانيين في الضاحية الجنوبية لبيروت، ورغم انّ المحاولة فشلت وعجزت «إسرائيل» عن استعادة أيّ من الطائرتين اللتين استعملتا في التنفيذ، فإنّ المحاولة كما قرأها حزب الله وكما هي بطبيعتها موضوعياً تشكل خرقاً خطيراً جداً للمشهد القائم وتشير إلى انّ «إسرائيل» تنكّرت لقواعد الاشتباك القائمة وتريد إرساء قواعد اشتباك جديدة تخلّ أو تطيح بمعادلة الردع المتبادل القائمة.

انّ السلوك الإسرائيلي العدواني جاء من غير أيّ ذريعة او حجة او تبرير مباشر وشكّل فعل عدوان قائم بذاته غير مرتبط بشيء، وأوحى بانّ هناك نية إسرائيلية للخروج من الوضع الذي ساد منذ 2006 على أساس معادلة الردع الاستراتيجي المتبادل او التوازن الاستراتيجي كما يصفه الخبراء الصهاينة، سلوك وضع لبنان ومقاومته أمام خيارين لا ثالث لهما:

ـ الأول: قبول لبنان بالتغيير والإطاحة بالأمن اللبناني والاستسلام أمام منطق إسرائيلي عدواني يقول بانّ «إسرائيل» تفعل ما تريد بقوّتها وإرادتها، وهذا يعني الإطاحة بكلّ المكتسبات الوطنية الأمنية والسياسية اللبنانية التي تحققت منذ العام 2000، ويعني التفريط بدم الشهداء وتعب وجهود المقاومين والجيش.

ـ الثاني: الردّ على العدوان بما يؤلمه ويفهمه انّ الخروج من منظومة قاعد الاشتباك القائمة ليس في مصلحته فيتراجع ويعيد الاعتبار الى معادلة الردع الاستراتيجي المتبادل.

بين الخيارين كان منطقياً ومنتظراً ان يرفض حزب الله على لسان قائده القائد العام للمقاومة الإسلامية في لبنان السيد حسن نصر الله خيار الاستسلام وهو العامل بشعار «هيهات منا الذلة» ولا يمكن بأيّ شكل من الأشكال العودة الى الوراء، ولهذا كان الوعيد بالردّ الآتي الذي يخدم لبنان وأمن لبنان والمقاومة ومحور المقاومة.

وعليه نقول إنّ على «إسرائيل» ان تعلم انّ المقاومة لم تراكم القوة والخبرات من اجل ان تأتي هي بخفة واستهتار وتنتهك أمنها وأمن ولبنان بل أنّ ما لدى المقاومة من إمكانات هو في خدمة هذا الأمن والوجود، ولذلك سيكون الردّ الحتمي بما يجهض محاولة نتنياهو الذي سيجد نفسه بعد الردّ في النقطة الأقرب الى باب السجن. ردّ يدرس بعناية بالغة في الزمان والمكان والوسيلة ما يجعل العدو يندم على فعلته. ثم يراجع سلوكه ويعيد الاعتبار الى معادلة الردع الاستراتيجي التي استهدفها.