مع أنّ رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ كان في طليعة مستنكري الاعتداء الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت، معبّراً عن تعاطفه مع أهلها، إلا أنّه حرص منذ اللحظة الأولى على عدم "تضييع البوصلة"، من خلال دعوة الحكومة إلى "مناقشة موضوع وجود القرار الاستراتيجي العسكري والأمني خارج الدولة".

لا شكّ أنّ جعجع، الذي اتُهِم بالتغريد خارج السرب العام من خلال هذا الموقف، كان يتوقّع أن توجَّه السهام نحوه من "​حزب الله​" وجمهوره بالدرجة الأولى، فضلاً عن حلفائه، بمن فيهم رئيس الجمهورية ​ميشال عون​، الذي جاء موقفه، معطوفاً على موقف المجلس الأعلى للدفاع، بمثابة "غطاءٍ شرعيّ" لأيّ عملية ينفذها الحزب رداً على الاعتداء.

إلا أنّ ما لم يتوقّعه جعجع أن تكون المواجهة مع رئيس الحكومة ​سعد الحريري​، كما حصل في جلسة مجلس الوزراء، حين تصدّى الأخير لحديث وزير "القوات" للشؤون الاجتماعيّة ​ريشار قيومجيان​ عن قرار الحرب والسلم، وهو الذي يصرّ على أنّ تحالفه "الاستراتيجي" معه يبقى فوق الاعتبارات "الآنية"، التي تفرضها بعض الاستحقاقات الداخلية، والتي شكّلت تعيينات "المجلس الدستوري" آخر تجلياتها...

الدولة تلغي نفسها؟!

في موقفه الأولي بعد اعتداء الضاحية، حاول رئيس حزب "القوات اللبنانية" أن "يوازن"، إن جاز التعبير، بين الموقف الوطني ممّا أجمع اللبنانيون على اعتباره "عدواناً إسرائيلياً" استهدف منطقة سكنيّة في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، وبين موقفه المعروف من "حزب الله"، ورفضه لاحتكاره قرار الحرب والسلم. ولذلك، كان لافتاً حرص جعجع على عدم إدانة الاعتداء على الضاحية فحسب، بل مجمل "الاختراقات الإسرائيلية المتكررة لسمائنا، كما لجوئهم لطائرات مسيّرة مفخخة ضدّأهداف في لبنان".

أراد "الحكيم" عبر هذا الموقف أن يقول إنّه يقف في "الخندق الوطني" ضدّ إسرائيل واستباحتها المتكرّرة للسيادة اللبنانية، بدليل عدم تبنّيه الروايات المشكّكة بصدقيّة الواقعة من أصلها، والتي انتشرت بشكل لافت على رغم افتقادها للواقعيّة والمنطق، على غرار الحديث عن أنّ الطائرتين المسيّرتين هما أصلاً لـ"حزب الله"، ولا علاقة لإسرائيل بهما، أو أنّ الأخيرة هي التي سيطرت عليهما بشكلٍ أو بآخر، ولكنّه في الوقت نفسه، رفض التسليم بحقّ "حزب الله" بالردّ، بالنيابة والوكالة عن الدولة اللبنانية، بما يمكن أن يورّط لبنان مجدّداً بـ"مغامرات" لا أحد يدري كيف يمكن أن تنتهي، تماماً كما حصل في تموز 2006.

ويرى مؤيّدو جعجع في موقفه هذا، أنّ الأخير اختار الانسجام مع القيم والمبادئ التي يشدّد عليها دائماً، وعدم الانجرار خلف "العواطف" التي اجتاحت المشهد العام، مشيرين إلى أنّ "الشواذ" الفعليّ لم يكن في موقف "الحكيم" بقدر ما كان في مواقف الآخرين ممّن اختاروا، عن قصد أو غير قصد، تغطية "حزب الله" في أيّ عملٍ يمكن أن يقدم عليه، من دون التنسيق المُسبَق مع أحد، وهو ما أوحى به أصلاً الأمين العام للحزب ​السيد حسن نصر الله​ في خطابه، والذي لاقاه المسؤولون في منتصف الطريق، بدل أن يعترضوا عليه.

وإذا كان "القواتيون" اختاروا عدم الصدام مع رئيس الجمهورية، بعكس ما فعل بعض المحسوبين على قوى "14 آذار" سابقاً، فإنّ أكثر ما فاجأهم كان أن يتصدّى لهم رئيس الحكومة، وهو الذي لطالما قاسمهم المواقف نفسها في ما يتعلق بالاستراتيجية الدفاعية وقرار الحرب والسلم، في تكريسٍ لـ"إلغاء الدولة لنفسها بنفسها"، وهو ما حضر بوضوح في بيان المجلس الأعلى للدفاع بتشديده على "حق اللبنانيين في الدفاع عن النفس بكل الوسائل ضدّ أيّ اعتداء"، في رسالة أكثر من كافية ووافية، سواء صحّ ما نُقل عن أنه أخذ علماً بإعداد "حزب الله" لردّ مدروس كما أشيع، أم لا.

ما المطلوب؟!

وفي حين برزت انتقاداتٌ لمقاربة الدولة لاعتداء الضاحية، وضمنياً رئيس الحكومة نفسه، حيث عرّضه كثيرون للمقارنة مع رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة الذي عرف كيف "يفصل" خلال حرب تموز 2006، "الدولة" عن "حزب الله"، فإنّ المحسوبين على "المستقبل" يستغربون مثل هذا الطرح من الأساس، ويسألون: ما هو المطلوب برأي "الحكيم"؟ وهل يعتقد أنّ الوقت الحاليّ، ونحن نواجه العدوان الإسرائيلي، هو الأمثل لنقاش الاستراتيجية الدفاعية وسواها؟.

وفي وقتٍ يصرّ "المستقبليّون" على أنّ "خلط" الملفات لا يجوز، وأنّ الاستنتاجات القائلة بأنّ الحريري يفعل ما يفعله "نكاية" بـ"القوات"، بعد مواقفها الأخيرة منه، على خلفية اتهامه بالتراجع عن تعهّداتٍ قطعها لها في ما يتعلق بتعيينات المجلس الدستوري، لا تستحقّ التعليق، فإنّهم يرفضون القول إنّ الحريري يخضع لرؤية "حزب الله"، خلافاً للمبادئ التي لطالما أعلنها، ويشدّدون على أنّ رئيس الحكومة يتصرّف كرجل دولة، وبما تمليه عليه مسؤولياته الوطنية والأخلاقيّة إزاء ما حصل.

ويلفت هؤلاء إلى أنّه، في وقتٍ يكتفي المنتقدون بالتنظير من بعيد، وإطلاق بعض المواقف "الشعبوية" التي قد تلقى الصدى لدى شريحةٍ معيّنةٍ من اللبنانيين، يسعى هو إلى تحصين الساحة اللبنانية لمواجهة كلّ السيناريوهات المحتملة، والتي تتطلب بمجملها، أياً يكن رأي هذا الفريق أو ذاك، وحدة وطنية بالحدّ الأدنى، وهو ما يعمل عليه الحريري، بالتنسيق مع رئيسي الجمهورية ميشال عون ومجلس النواب ​نبيه بري​ لتحقيقه، خصوصاً أنّ "الوحدة الوطنية تبقى أمضى سلاح في وجه العدوان"، كما جاء أصلاً في بيان المجلس الأعلى للدفاع.

وإلى جانب ذلك، يدعو "المستقبليون" إلى عدم إغفال أهمية الدور الذي يلعبه الحريري دبلوماسياً لمنع الانزلاق نحو أتون حرب لا مصلحة لأحد بها في الوقت الحاليّ، وهو ما يتجلى من خلال الاتصالات الدولية التي أجراها منذ اليوم الأول، مع وزير الخارجية الأميركي ​مايك بومبيو​، ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وغيرهما، حيث تولى نقل الموقف اللبنانيّ والذي يختصر بأنّ إسرائيل هي المعتدية، ولبنان في موقف الدفاع عن نفسه، وهو حقّه البديهيّ والطبيعيّ.

"حرتقةوزكزكات"!

بين موقفي رئيس الحكومة و"القوات اللبنانية" من تداعيات اعتداء الضاحية، خيطٌ رفيعٌ فاصلٌ نظرياً، يمكن أن يتحوّل عملياً إلى تباينٍ شاسعٍ على أكثر من مستوى.

لا يختلف الحريري وجعجع، مبدئياً، على أنّ ما حصل اعتداءٌ على منطقةٍ لبنانيّةٍ، وقد لا يختلفان أيضاً، نظرياً، على أنّ للبنان الحقّ في الدفاع عن نفسه، وربما يتّفقان أيضاً على أنّ هذا الحق يفترض أن يكون بيد الدولة، ممثّلةً بمجلس الوزراء.

لعلّ ما يختلفان عليه في الظاهر هو توقيت نقاش مثل هذه المسألة، في عزّ العدوان، وضرورة البحث عن سبل المواجهة، بدل "الحرتقة" من هنا وهناك، لكنّ الأكيد أنّ المسألة أعمق من ذلك، وهي ترتبط بـ "زكزكاتٍ" متبادَلة، لم تبدأ مع أزمة "الدستوري"، ولن تنتهي مع الاعتداء الإسرائيلي وتبعاته المحتملة...