في وقتٍ كانت الدعوات تصدر عن بعض القوى السياسية لاستئناف الحوار الوطنيّ المجمَّد حول ​الاستراتيجية الدفاعية​، في ضوء المتغيّرات التي شهدتها المنطقة خلال الأعوام القليلة الماضية، جاءت الدعوة إلى حوار اقتصادي-سياسي في ​قصر بعبدا​ الإثنين المقبل، بمشاركة جميع الأحزاب الممثَّلة في البرلمان، الموالية منها والمعارضة على حدّ سواء.

ولعلّ الرسالة الأساسيّة من خلف هذه الدعوة، التي اتُفِق عليها بين كلّ من رؤساء الجمهورية ​ميشال عون​ ومجلس النواب ​نبيه بري​ والحكومة ​سعد الحريري​، تُقرَأ من عنوانها، باعتبار أنّ الملفّ الاقتصاديّ هو الذي يفترض أن يشكّل الأولوية اليوم، في ظلّ الخشية المتفاقمة من الانهيار التامّ، والمجهول الذي يمكن أن يقود البلاد إليه على كلّ المستويات.

وإذا كان الرئيس عون حرص على استباق الحوار بالحديث عن "تدابير صعبة ولكن ضرورية"، متناغماً بذلك مع كلّ ما يُحكى عن إجراءات "موجعة" لا بدّ منها لمنع الغرق، تُطرَح علامات استفهام عن "المأمول" من اللقاء، الذي يُحكى أنّه يمهّد الطريق لـ"قفزةٍ نوعيّة" في موازنة 2020، تنسجم مع المتطلبات والشروط الدوليّة للإصلاح...

حوار من أجل الحوار؟!

يُعرَف عن الرئيس ميشال عون أنّه يرفض رعاية أيّ حوارٍ من أجل الحوار فقط، وهو لهذا السبب لم يدعُ حتى الآن إلى حوارٍ حول الاستراتيجيّة الدفاعيّة، كما كان يحصل في عهد سلفه الرئيس السابق ​ميشال سليمان​، على رغم المطالبات الكثيرة التي جوبه بها، في الداخل والخارج، والتي دفعته قبيل الاستحقاق الانتخابي الأخير، إلى إبداء النيّة بالدعوة إلى مثل هذا الحوار، لإدراكه أنّه لن ينتج أكثر من إعلانٍ آخر شبيه بـ "​إعلان بعبدا​" الذي تحوّل إلى مادة تندّر سياسيّ، ولو اعتُبِر "إنجازاً" عند إقراره.

انطلاقاً من هذا المبدأ، يصبح الأكيد أنّ المطلوب من الحوار الاقتصاديّ المنتظَر في بعبدا الإثنين المقبل، أقلّه من منظور الرئيس عون، لا يمكن أن يكون مجرّد بيانٍ إنشائيّ أقرب إلى نظم الشعر، يقرّ فيه المشاركون في الحوار بخطورة ​الوضع الاقتصادي​ الذي تئنّ تحته البلاد، ويشدّدون على ضرورة التكاتف والاتحاد للإنقاذ، والشروع في خطوات الإصلاح المطلوبة دولياً، والتي كثر الحديث عنها منذ ما قبل إقرار موازنة 2019، بل المطلوب رسم خريطة طريق محدّدة وواضحة ولا تحتمل اللبس، يتمّ الانطلاق منها في وضع أسُس ​الموازنة​ الجديدة.

وإذا كانت أهميّة هذا الحوار تنبع من توقيته، في ضوء التصنيفات الائتمانيّة للبنان التي صدرت أخيراً، وما حُكي عن مهلة ستّة أشهر لاتخاذ قراراتٍ إصلاحيّة بنيويّة وجوهريّة تحت طائلة تخفيضٍ إضافيّ للتصنيف، وما يترتّب على ذلك من تداعياتٍ كارثيّة، فإنّ اللافت أنّ عون استبقه بتصريحاتٍ شفّافة، تحدّث فيها صراحةً عن "خطٍ تصحيحيّ" لتعزيز الاقتصاد سيبدأ اعتماده خلال الأيام القليلة المقبلة، لافتاً إلى "تدابير صعبة ولكنها ضرورية"، مشبّهاً الأمر بـ"المريض الذي قد لا يعجبه طعم الدواء ولكن يجب أن يتناوله كي يشفى".

وفُهِم من هذا الكلام الرئاسيّ الواضح أنّ حوار بعبدا يجب أن يمهّد الطريق لتلك الإجراءات "الموجعة" التي سبق لرئيس الحكومة أن تحدّث عنها أيضاً منذ ما قبل تشكيل حكومته، والتي خضعت للنقاش قبل إقرار موازنة 2019، التي لم تتضمّن للمفارقة، في صيغتها النهائية، سوى "جرعة بسيطة" منها، علماً أنّ المعلومات المتوافرة تشير إلى أنّ عون سيقدّم على طاولة الحوار ورقة اقتصادية متكاملة، تتضمّن سلسلة من التوصيات سيفتح النقاش حولها، من أجل تمريرها.

"الحصانة المطلوبة"!

وربطاً بهذه الورقة وما تتضمّنه من توصيات، حفلت الصالونات السياسية بالكثير من المعلومات والإشاعات، التي أخذ بعضها طابعاً "تهويلياً" خلال اليومين الماضيين، حول ما يمكن أن ينتج عن طاولة الحوار الاقتصادي، من إجراءاتٍ ستطال الفقراء وذوي الدخل المحدود قبل غيرهم، في محاولة لإعادة الاعتبار للبنود والمواد التي لم تمرّ في موازنة 2019، لتأتي الأخيرة مخيّبة للآمال التي بنيت عليها، خصوصاً من الجهات المانحة الدولية.

وفي هذا السياق، انتشرت الكثير من المعلومات عن ضرائب "مستحدَثة" مطروحة على "أجندة" حوار بعبدا الاقتصاديّ، في صدارتها فرض ضريبة على البنزين مثلاً، أو بالحدّ الأدنى تحديد حدّ أدنى وربما أقصى لأسعار البنزين، بمُعزَلٍ عن انخفاضها العالميّ، إضافة إلى رفع ضريبة القيمة المضافة على بعض المواد التي تُصنَّف في خانة "الكماليات"، مع الاستنساب في تحديدها، وزيادة ضريبة الفوائد، والمحسومات التقاعدية، وزيادة ​الضرائب​ على الودائع المصرفيّة، وغيرها من الإجراءات والتدابير "غير الشعبوية".

وانطلاقاً من هذا التوصيف بالتحديد، وبمُعزَلٍ عن مدى دقّة كلّ هذه المعلومات، يكمن "بيت القصيد" برأي الكثيرين خلف الدعوة إلى هذا الحوار، التي شملت جميع الكتل السياسية الممثلة في البرلمان، بما فيها القوى المعارضة، سواء داخل الحكومة أو خارجها، وبالتحديد تلك القوى التي صوّتت ضدّ موازنة 2019، وخصوصاً حزب "الكتائب" الذي أكد رئيسه النائب سامي الجميل المشاركة، وحزب "القوات اللبنانية" الذي بدا متردّداً إلى حدّ ما، ولو أنّ أمر مشاركته شبه محسوم للكثير من الاعتبارات والحسابات.

من هنا، يمكن القول إنّ المطلوب من الحوار الخروج برزمة إجراءات وإصلاحات "يباركها" بشكلٍ أو بآخر المعارضون قبل غيرهم، الذين سيكونون مُطالَبين بتقديم طروحات جدية "بديلة" على ما يرفضونه، بأسلوبٍ علميّ، بعيداً عن "الشعبوية" التي تطبع خطابهم، والتي لا يمكن إلا أن تلقى الصدى الطيّب لدى الناس. وإذا كان التوصّل إلى "توافقات" على هذا الصعيد أمراً صعباً، فإنّ المعنيّين يؤكّدون أنّ المطلوب ليس "إحراج" المعارضة مثلاً، بقدر ما هو "تحصين" الإجراءات التي يمكن الاتفاق عليها، ولو بالحدّ الأدنى، تفادياً لتكرار مشهد الشارع، الذي خفّض كثيراً من سقف موازنة 2019، علماً أنّ معظم التحركات التي حصلت، لم تكن لتتمتع بالزخم نفسه لولا دعم بعض القوى السياسيّة لها.

دخان أبيض؟!

قد يكون الاعتقاد بأنّ "الدخان الأبيض" سيتصاعد من قصر بعبدا الإثنين المقبل، مبشّراً بـ"توافق" الموالاة والمعارضة على خطةٍ اقتصاديّة متكاملة، توقف الانهيار، ولا تطال ذوي الدخلين المحدود والمتوسط، حلماً بعيد المنال، أقلّه بالنظر إلى طروحات ما قبل الحوار.

فالموالاة تستبق الحوار بالحديث عن "خطة إنقاذ" متّفَقٍ عليها، تتضمن إجراءات "موجعة"، والمعارضة تقول إنّها ترفض "البصم على بياض"، وإنّ هناك الكثير من الإجراءات التي يمكن للدولة أن تعتمدها للإنقاذ من دون أن تمسّ بمتوسّطي الدخل، وقوامها وقف الهدر والنهب والمحسوبيّات، لكنّها لا تفعل.

وبين هذا وذاك، يبقى حدّ أدنى مأمول من الحوار، حدّ يمكن أن يقي لبنان "شرّ" الترهيب الذي يتعرّض له اقتصادياً من هنا وهناك، حدّ يسمح بـ "التفاهم" على الشروع بخطة إصلاحيّة متوازنة، منعاً للتمادي بالغرق، الذي لن يخرج منه أحد منتصراً، سواء في الموالاة أو المعارضة...