قرأت كالكثير من ال​لبنان​يين بحسرة وأسف، ما جاء في بيان ​الخارجية التركية​ رداً على ما قاله رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ في الذكرى المئوية للبنان الكبير. إن اقل ما يقال في هذا البيان انه بعيد كل البعد عن الدبلوماسيّة، وفيه فائض من الوقاحة كافٍ لإغراق كاتبه ومن يتبناه، كما انه محاولة يائسة لاعادة كتابة التاريخ الذي لا يكذب على عكس اصحاب هذا الرد. ومن خلال القراءة لما تضمّنه الرد التركي، يمكن القول بضمير مرتاح ان كاتبه لا يزال يتدرّج في صالونات التجميل دون ان يتخرّج بعد، لانّ كمية المواد التجميليّة التي حاول اغداقها على ممارسات السلطنة العثمانية أدّت غاية معكوسة شوهتها بشكل اضافي.

اعتقدت الخارجيّة التركيّة انّ الاساءة الى لبنان ورئيسه هو افضل طريقة للهروب الى الامام من واقع تاريخي لا يحمل النقاش او البحث، وبدل ان يحاولوا اصلاح الامور من خلال الاعتراف بأخطاء سابقة حصلت ومحاولة الاضاءة على بعض الامور الايجابيّة (فيما لو كانت موجودة بالفعل)، عادت وتقمّصت شخصيّة السلطنة العثمانيّة واصدرت ما اعتبرته "فرماناً"(1) في هذا الخصوص، وغاب عنها ان ايام "الفرمانات" قد ولّت الى غير رجعة.

لن تحظى ​تركيا​ بغايتها عبر مهاجمة لبنان ورئيسه، وسياسة الهروب الى الامام في هذا السياق لن يكتب لها النجاح، فالسلطنة العثمانيّة عاثت فساداً وقتلاً وتدميراً بلبنان وغيره من الدول، ولم تكن تعتمد سياسة المحبّة او تتقيّد بتعاليم المسيح، ولم يكن أحدٌ من ضحاياها يكنّ لها المحبّة او الودّ، لانّ حكمها كان عبر البطش والدمّ الى ان انتهى بالقوّة ايضاً. وعلى أيّ حال، من نصّب الخارجية التركية بديلاً عن السلطنة العثمانيّة؟ وهل بات ​بوريس جونسون​ اليوم وريث الامبراطورية البريطانيّة، تلك التي كانت الشمس لا تغيب عنها، يتحدث باسمها ويصدر اوامره الى مستعمراتها السابقة للتقيد بما يقوله؟ او يمنعهم من الكلام عن مساوئ الاحتلال البريطاني والاخطاء التي ارتكبت في تلك الحقبة؟.

لماذا السعي الى تغيير التاريخ والكذب؟ هل اختار اللبنانيون تعليق المشانق طوعاً لـ"ينتحروا" وسط العاصمة؟ انّ سياسة الاختباء وراء الاصبع اثبتت فشلها الذريع عبر الإبادة التي ارتكبت بحقّ الأرمن على يد الاتراك، وحاول الرئيس التركي ​رجب طيب اردوغان​ وادارته قلب التاريخ بالترغيب والترهيب، ولكنّ الوقائع لا يمكن ان تتغيّر فهي لا تخضع لمشاعر هذا الشخص او ذاك، ودماء الابرياء لا تجفّ ارضاء لشخص قرّر كتابة تاريخ جديد لانّ التاريخ الحقيقي لم يعجبه. واذا قرّر لبنان التعالي على الجراح وطي صفحة الماضي والبدء بصفحة جديدة والانفتاح على تركيا، فهذا لا يعني انه يمكن للسلطات التركيّة التعالي عليه، ولتتذكر وزارة الخارجيّة التركيّة الحملات الدوليّة عليها من جماعات ومنظّمات حقوق الانسان حول تعاطيها مع الاحداث في سوريا او حول حملة الاعتقالات بالآلاف (التي لا تزال سائدة) بعد عمليّة الانقلاب الفاشلة التي تعرض لها الرئيس التركي عام 2016، وليحاول انكارها كما يحاول انكار ما فعلته السلطنة العثمانيّة.

اخطأت ​وزارة الخارجية​ التركيّة ومن وراءها بالعنوان، و"الفرمان" الذي اصدرته لا يصلح سوى في مبناها لانه سرعان ما سيتحول الى مادّة دسمة للسخريّة والضحك من مضمونه ومن المحاولات البائسة واليائسة لاستعادة الامبراطوريّة العثمانيّة من جديد، وهو هدف لن يرى النور الا في مخيّلة اصحابه اليوم، فلتقنع ​السلطات التركية​ بما تملك، ولتعمل على البناء عليه من اجل تعزيز صورتها ووضعها في المنطقة بدل العنجهيّة الفارغة والاستخفاف بالوقائع التاريخيّة ومحاولة شطبها، علّها تقتدي بلبنان وتحظى ببداية جديدة تتحمل فيها اخطاء الماضي وتتقبلها وتتعلم منها، والا ستبقى غارقة في مستنقعات الماضي تضيع في ممارسات خاطئة لم تنفعها بشيء، لا بل اثبتت انها اضرّت وتضرّ بها.

(1)الفرمان العُثماني هو قانون بأمر من السلطان العثماني نفسه وممهور بتوقيعه وهو نافذ لا عودة عنه. وقد أصدر السلاطنة خلال فترات حكمهم للبلدان الّتي احتلّوها ومن بينها لبنان الاف الفرمانات، وكانت تحمل بأغلبها أحكام ملاحقات واعدامات لأناس أبرياء واشغال بالسخرة دون أي مقابل ومصادرة غلال الفقراء لاطعام الجيش العثماني.