في خطابه في ذكرى شهداء المقاومة اللبنانيّة، لم يفصل رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ بين رئيس الجمهوريّة ​ميشال عون​ ورئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية ​جبران باسيل​، على جري عادته، فصوّب على العهد بالمُطلَق، معتبراً أنّه "لم يكن على قدر الآمال".

وبعد أقلّ من 24 ساعة على خطابه، قدّم جعجع على طاولة الحوار الاقتصادي التي استضافها قصر بعبدا طرحاً مفاجئاً قوامه استقالة الحكومة، وتشكيل حكومة اختصاصيّين مكانها، متناغماً بذلك مع ما تطرحه القوى المعارضة، على غرار حزب "الكتائب"، مع فارقٍ بسيطٍ هو أنّه يبقى جزءاً من الحكومة.

وإذا كان جعجع يترجم بتوسيع خصوماته لتشمل جميع الفرقاء دون استثناء، امتعاضه من تصرّف هؤلاء معه، منذ ما قبل إقصاء "القوات" عن تعيينات "الدستوري"، فإنّ أسئلة تُطرَح عن دلالات الأدبيّات "القواتية" المستجدّة، بين من يقرأ فيها إعادة تموضع، ومن يعتبرها "انقلاباً" بحدّ ذاته...

جعجع وحيداً؟

يشعر رئيس حزب "القوات اللبنانية" أنّه بات وحيداً بشكلٍ أو بآخر، بعدما تخلّى عنه الحلفاء والأصدقاء، واحداً تلو الآخر، ولعلّه لذلك بالتحديد اختار رفع السقف في هذه المرحلة، والخروج عن سياسة التحفّظ والنأي بالنفس التي كان يتّبعها، أو ما يحلو للبعض توصيفها بسياسة الترقيع والمسايرة.

قد تكون تعيينات المجلس الدستوري الأخيرة هي القطرة التي أفاضت الكأس، خصوصاً بعد ما يعتبره "القواتيون" انقلاباً على الاتفاق قاده "الوطني الحر"، وشارك فيه كلّ من رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ ورئيس مجلس النواب ​نبيه بري​. إلا أنّ الأمر بحسب هؤلاء، يبقى أبعد وأعمق من كلّ ذلك، ويتعلّق بتراكماتٍ بدأت منذ انطلاقة العهد ولم تنتهِ فصولاً بعد.

وتكاد العلاقة مع وزير الخارجيّة جبران باسيل تختزل المسألة برمّتها، وهو ما بات أصلاً مكشوفاً وعلنياً في الأسابيع القليلة الماضية، مع تصاعد حدّة الاشتباك الكلامي بين الجانبين، ووصوله إلى الحدّ الأقصى المُتاح منذ استشهاد جعجع بأغنية "قوم بوس تيريز" الساخرة للإشارة إلى باسيل، وما أدّى إليه ذلك من حروبٍ مباشرة، لا بالوكالة. ويقول "القواتيون" إنّ باسيل هو المُلام، باعتبار أنّه من "انقلب" على "تفاهم معراب" بالممارسة، بعيداً عن الأقوال، وبات يعمل على عزل "القوات" وإقصائها، اعتقاداً منه أنّ ذلك ييسّر له طريقه إلى قصر بعبدا.

ومن الصراع مع باسيل، تتفرّع كلّ صراعات جعجع الأخرى، ولا سيما مع من كان يعتبره حليفه الاستراتيجي، رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي يأخذ عليه "القواتيّون" أنّه فضّل تفاهمه مع باسيل على تحالفه معهم، كما أنّه لم يجرؤ على الاستقواء سوى عليهم، منذ ما قبل تأليف الحكومة، علماً أنّ انحياز الحريري إلى خيار باسيل في ملفّ "الدستوري"، على رغم الاتفاق المُسبَق مع "القوات"، ومن دون الشعور بالحاجة إلى توضيح موقفه مثلاً كما فعل بري، شكّل نقطة "اللا عودة" على هذا الصعيد.

إلى المعارضة؟!

وتكرّ سبحة صراعات "القوات" مع الأفرقاء، لتشمل حتى من يبدون قريبين منها في الفكر والممارسة في هذه المرحلة، على غرار حزب "الكتائب" الذي سبق أن افتعلت "القوات" معه معركة بسبب ما اعتبرتها "مزايداته الشعبوية"، قبل أن تتفوّق عليه في الأيام الماضية، وصولاً إلى "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" الذي ترى أنّه لم يبادل موقفها معه خلال أزمة ​قبرشمون​ بالمثل، حين ذهب إلى التسوية من خلف ظهرها وعلى حسابها.

وإذا كان كلّ ما سبق يدفع إلى الاعتقاد، مبدئياً، بأنّ "القوات" تعيد تموضعها منطقياً، لتنتقل إلى صفوف المعارضة، لتعارض وفقاً للأصول حكومة لم يعد يجمعها شيء مع مكوّناتها، فإنّ المعنيّين يؤكدون أنّ مثل هذا الأمر غير وارد، وأنّ طرح جعجع الأخير يجب أن يؤخذ كاملاً، بمعنى أنّ المطلوب هو استقالة الحكومة بكلّ أفرادها وأحزابها، والإتيان بحكومة كفاءات، وليس استقالة طرف محدّد وترك الساحة للآخرين ليفعلوا ما يريدون.

ويتوقف "القواتيون" في هذا السياق عند بعض المواقف غير البريئة، برأيهم، التي صدرت عن البعض، ولا سيما من نواب تكتل "لبنان القوي"، ممّن طالبوا "القوات" بأن تبادر فتخرج قبل غيرها طوعاً من الحكومة. وتعتبر "القوات" أنّ هذه المواقف بحدّ ذاتها تثير الريبة، لأنّ هناك من يريد أن يسرح ويمرح في الحكومة ويعيث في الأرض فساداً، من دون أيّ محاسبةٍ أو مساءلةٍ، خصوصاً بالمقارنة بين التنظير والعمل على الأرض.

ولا يبدو هذا السبب الوحيد لرفض "القوات" الانتقال إلى صفوف المعارضة، وإن كانت تطلب ودّ جمهور الأخيرة، إذ إنّ الأمر يرتبط أيضاً بغياب المفهوم الحقيقي للمعارضة في لبنان، خصوصاً في ظلّ حكومات الوفاق أو الوحدة المعمول بها منذ سنوات، والتي تمنع أصلاً التقيّد بالنظام البرلماني اللبناني الذي يقوم على الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بل تكريس المساءلة والمحاسبة، وهو ما يجعل الخصوم الشرسين في السياسة أقوى الحلفاء عندما يتعلق الأمر بالمحاصصة وتقاسم الكعكة وما إلى ذلك.

بِدَعٌ وأكثر!

لا شكّ أنّ طرح جعجع الذهاب إلى حكومة اختصاصيّين، بدلاً من حكومة الوحدة الوطنية، ليس الأول من نوعه، ولن يكون الأخير على الأرجح. ولا شكّ أنّ هذا الطرح يستحقّ البحث، مبدئياً، لكونه يتيح على الأقلّ الانطلاق بورشةٍ إصلاحيّة يقودها أصحاب الاختصاص، بعيداً عن التسييس.

لكن، قبل هذا وذاك، لا شكّ أنّ مثل هذا الطرح يبقى حلماً بعيد المنال في بلدٍ كلبنان، حيث تتحكّم السياسة والطائفية بكلّ التفاصيل، وحيث يصبح طرحٌ من هذا النوع بحدّ ذاته عُرضةً للتسييس، باعتبار أنّ "القوات" مثلاً تطرحه اليوم بعد شكواها من "عزلٍ وإقصاء"، وسقوط تفاهماتها.

أما المعارضة من الداخل، التي تتّخذها "القوات" اليوم شعاراً، وينتقدها عليها الكثيرون ممّن دأبوا على اعتمادها في العهود السابقة، فليست سوى عيّنة عن البِدَع التي يصعب العثور عليها سوى في لبنان...