التاريخ يُثبت أنّه عند نهاية أي حرب أو مُواجهة عسكريّة بين طرفين، غالبًا ما يترافق توقّف القتال مع فرض مُعادلات ميدانيّة تُحدّد قواعد الإشتباك. وفي لبنان، هذا ما حصل بعد إنسحاب ​الجيش الإسرائيلي​ من ​جنوب لبنان​ في أيار من العام 2000، ثم جاءت حرب تمّوز في العام 2006، لتفرض قواعد إشتباك جديدة بين الطرفين، في ظلّ مُراقبة دوليّة(1). وما يحصل اليوم، هو مُحاولة واضحة من جانب "​حزب الله​" لتثبيت قواعد إشتباك جديدة، تكون مُتوازنة أكثر مع الجانب الإسرائيلي الذي تمتّع في الماضي بتفوّق جوّي، وبقُدرة على تنفيذ عمليّات إغتيال وقصف، بدون ردّ مناسب. فما هي أسباب وخلفيّات هذا القرار، وما هي تداعياته وإرتداداته، وهل يُمكن أن يقود المنطقة إلى حرب؟.

لا شكّ أنّ "حزب الله" بدأ بتنفيذ مُحاولة جدّية لتثبيت قواعد إشتباك جديدة مع إسرائيل، عبر إستهداف آليّة عسكريّة إسرائيلية في مستعمرة أفيفيم في الأول من أيلول الحالي، ثم إستكمل ذلك بإسقاط طائرة مُسيّرة عند عُبورها الحدود اللبنانيّة من فوق بلدة رامية الجنوبيّة في التاسع من أيلول، علمًا أنّ هذه المُحاولة ستُستكمل بضربات أخرى في المُستقبل القريب. وفي هذا السياق، تؤكّد كل المعلومات المُتوفّرة أنّ قرار إستهداف الطائرات المُسيّرة الإسرائيليّة مَفتوح، بمعنى أنّ "الحزب" سيعمل في الأيّام والأسابيع المُقبلة على إستهداف طائرات إسرائيليّة مُسيّرة أخرى، بشكل مَدروس يجمع بين توفّر الفُرصة المُناسبة من جهة وبين صُدور "الضوء الأخضر" لكل عمليّة على حدة، تبعًا للقرار السياسي وللرسالة المَطلوب توجيهها ولتوقيتها. والهدف الإستراتيجي يتمثّل بفرض مُعادلة ردع جديدة، لكن من دون التسبّب بإنفلات الأمور عسكريًا، ولا بكشف قُدرات الدفاع الجوّي التي يملكها "حزب الله"(2).

من جهة أخرى، لا بُد من الإشارة إلى أنّ رفع "الحزب" مُستوى المُواجهة مع الجانب الإسرائيلي في هذه المرحلة بالتحديد، والذي أكّده أمين عام "حزب الله" السيّد ​حسن نصر الله​ مُجدّدًا في خطابه أمس، يعود إلى جملة من الأسباب المُستجدّة والتغييرات المحليّة والإقليميّة. وفي هذا السياق، لم يعد "الحزب" محط إنتقاد دائم وضُغوط محليّة، بعد تبدّل التوازنات السياسيّة على الساحة اللبنانيّة بوُصول العماد ​ميشال عون​ إلى منصب رئاسة الجمهوريّة، وتراجع نُفوذ الأحزاب التي كانت تُشكّل "قوى 14 آذار" وتشتّتها، الأمر الذي جعل "حزب الله" طليق اليد أكثر من أيّ وقت مضى في لبنان. وصار "الحزب" أكثر قُوّة وخبرة من الناحية العسكريّة، وأكثر تسليحًا أيضًا عمّا كان عليه في العام 2006، ما جعله أكثر ثقة بقدراته على المُواجهة أيضًا. وهو عاد إلى التفرّغ للملفّ الإسرائيلي بشكل كبير، بعد نجاح النظام السوري، بدعم روسي-​إيران​ي، في ربح الحرب التي وقعت في ​سوريا​ منذ العام 2011، بحيث لم يعد "الحزب" مكشوف الظهر-إذا جاز التعبير، وصار تركيزه مُنصبّا على قتال الإسرائيليّين من جديد. إلى ذلك، إنّ الحصار الإقتصادي الخانق الذي تتعرّض له إيران، دفع طهران إلى تحريك مُختلف القوى المَدعومة منها، لتوجيه رسائل أمنيّة تُستثمر في نهاية المطاف في المُواجهة المَفتوحة بين إيران و​الولايات المتحدة​ الأميركيّة. وفي هذا السياق، وبحسب العديد من الخُبراء، إنّ الضُغوط الإقتصاديّة والسياسيّة الهائلة التي تُمارسها واشنطن على طهران، والتي تُقابل برسائل أمنيّة مُتعدّدة من قبل هذه الأخيرة في أكثر من ساحة قتال من اليمن والسعودية، مُرورًا بسوريا، وبالأراضي الفلسطينيّة التي تُسيطر عليها حركة "حماس"، وُصولاً إلى لبنان، تهدف كلّها إلى تعزيز أوراق التفاوض عندما تصل الأمور إلى مرحلة اللقاءات السياسيّة والحُلول.

والأكيد أنّ إختيار مرحلة الإنتخابات الإسرائيليّة لتصعيد مُحاولات تغيير قواعد الإشتباك، هو خيار مدروس بعناية من جانب "حزب الله" ومن يقف وراءه، لأنّ قُدرة الإسرائيلي على الردّ مَحدودة جدًا، بسبب حساسيّة الإنتخابات وتأثّر الناخبين في إسرائيل بنتائج أي مُواجهة غير ناجحة يُمكن أن تقع، ما يعني عمليًا أنّ رئيس الحكومة الإسرائيليّة الحالي ​بنيامين نتانياهو​ هو مُكبّل اليدين إلى حدّ كبير.

وبالنسبة إلى تداعيات وإرتدادات ما يحصل، وإمكان أن يقود المنطقة إلى حرب، من الضروري الإشارة إلى أنّ الضربات التي تُنفّذها إسرائيل في العراق، تبقى من دون ردّ مباشر لعجز القوى المعنيّة في العراق عن ذلك. والضربات التي تُنفّذها إسرائيل في سوريا، تبقى من دون ردّ من جانب النظام السُوري الذي كان دخل في هدنة غير مُعلنة مع إسرائيل منذ عُقود طويلة مُرتبطة بعدم التعرّض لأمن إسرائيل في مُقابل بقاء "آل الأسد" في الحُكم، مع تسجيل مُحاولات ردّ غير مُوفّقة في إتجاه إسرائيل من جانب باقي القوى والميليشيات المُسلّحة المُنتشرة على الأراضي السُوريّة حاليًا. والضربات الإسرائيليّة في المناطق الفلسطينيّة تُقابل بردود مَحدودة وغير رادعة.

وفي ما خصّ لبنان، فإنّ الوضع مُختلف، لأنّ "حزب الله" قادر على الردّ، لكنّه كان يمتنع عن ذلك في السابق لأسباب مُختلفة، علمًا أنّ إسرائيل-المُدركة لهذا الواقع، كانت تكتفي بالإنتهاكات الجويّة والبحريّة دون سواها في أغلب الأوقات. أمّا اليوم، ومع قرار "الحزب" مُواجهة كل الخُروقات الإسرائيليّة، بما فيها الجويّة، وتحديدًا بالنسبة إلى الطائرات المُسيّرة من دون طيّار-أقلّه حتى الساعة، فإنّ تطوّر الوضع نحو مُواجهة شاملة بين إسرائيل و"حزب الله" مُرتبط مُباشرة بوتيرة الضربات التي ستُوجّه للطائرات الإسرائيليّة وبمدى قساوتها. فإسرائيل التي تنتهك المجال الجويّ اللبناني بشكل دَوري منذ عُقود، قادرة على إمتصاص الوقع المَعنوي السلبي لإسقاط طائرة من هنا أو هناك في أوقات مُتباعدة زمنيًا، أمّا في حال تكثيف هذه الضربات من جانب "الحزب" فإنّ هيبة إسرائيل بكاملها ستكون على المحكّ، ما سيُضطرّها إلى المُبادرة من جهتها لتعديل قواعد الإشتباك من جديد، وعندها ستكون الأمور مَفتوحة على كل الخيارات مع كل المُخاطر المُترتّبة على ذلك، وُصولاً إلى إحتمال إنزلاق الجميع لا إراديًا إلى الحرب!.

(1) عبر نشر نحو 10000 جندي في الجنوب، مَدعومين بالقرار الدَولي رقم 1701.

(2) يتردّد أنّها باتت تشمل صواريخ أرض–جوّ قادرة على إستهداف الطائرات الحربيّة النفّاثة، وليس الطائرات المُسيّرة من دون طيّار فحسب، والتي تسير على علّو أكثر إنخفاضًا وبسرعات بطيئة نسبيًا، مُقارنة بتلك النفّاثة.