التباينات والخلافات بين الكتائب و​القوات​ التي وُلدت من رحم الكتائب–إذا جاز التعبير، تعود إلى ثمانينات القرن الماضي، والحساسيّات والإختلافات التكتيّة بين الطرفين كانت بدأت بين الشقيقين رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميّل والرئيس المُنتخب الشهيد بشير الجميّل، وإستمرّت بعدهما. لكنّ هذه العلاقة الحسّاسة التي شهدت فترات تقارب وفترات تباعد، تبعا للظروف على مدى أربعة عُقود، بلغت أخيرًا مرحلة تدهور خطير جدًا، في ظلّ تبادل المواقف الإعلاميّة القاسية. فما هي الأسباب، وما هي الإرتدادات؟.

بالنسبة إلى الأسباب الحديثة، يُمكن إختصارها بما يلي:

أوّلاً: تفوّق مُرشّحي القوات على مُرشّحي الكتائب خلال الإنتخابات النيابيّة الأخيرة، وهو ما تظهّر بشكل واضح لا يقبل الشكّ، في مختلف المناطق اللبنانيّة، باستثناء المتن(1)، علمًا أنّه في الإنتخابات السابقة التي كانت تجري وفق النظام الأكثري وفي ظلّ لوائح مُوحّدة بين الطرفين، كانت الكتائب تتوهّم حجمًا شعبيًا أكبر بكثير ممّا تظهّر بالأرقام خلال الإنتخابات الأخيرة وإعتماد "الصوت التفضيلي"، وذلك حتى في المناطق التي كانت مَحسوبة تاريخيًا على الكتائب، مثل زحلة والبترون وكسروان، إلخ...

ثانيًا: رفض القوات الإستقالة من الحُكومة –كما يُطالبها الكثيرون ومنهم حزب "الكتائب"– ولو إنطلاقًا من غايات مُختلفة، الأمر الذي زاد من حزازيّة الموقف بين القوات و​حزب الكتائب​ الذي يفتقر حاليًا للقُدرة الخدماتية التي توفّرها المُشاركة في السُلطة، علمًا أنّ القوات تستقطب أيضًا بمواقفها المُعارضة -ولو من داخل الحُكومة، شرائح شعبيّة كثيرة رافضة للواقع الراهن. ويخشى حزب الكتائب أن يُؤدّي هذا الأمر إلى مزيد من التآكل في شعبيّته لصالح القوات التي يبدو وكأنها تستفيد من المُعارضة ومن المُوالاة في آن واحد، علمًا أنّ الطرفين يأكلان من الصحن الشعبي نفسه–إذا جاز التعبير.

ثالثًا: تُحمّل قيادة الكتائب قيادة القوّات مسؤولية التسوية الرئاسيّة التي حصلت، وكل النتائج التي نجمت عنها على مُختلف الصُعد، لا سيّما لجهة تراجع نُفوذ الخط السيادي، في حين ترفض القوات هذه التهمة وتؤكّد أنّها لم تكن المُبادرة إلى تقرير التسوية التي بدأت بإتفاق بين "تيّار المُستقبل" و"تيّار المردة" لإنتخاب الوزير السابق سليمان فرنجيّة رئيسًا للجُمهوريّة، في ظلّ ضُغوط دَوليّة لإنهاء حال الشُغور والشلل على مُختلف المُستويات في لبنان، حيث قامت القوّات بالتدخّل وبتحويل وجهة التسوية فقط لا غير، وذلك ليس لإستبدال إسم الوزير السابق فرنجية بإسم الرئيس العماد ميشال عون، بل على أملّ طيّ صفحة الحقد بين مُناصري "القوات" و"التيار الوطني الحُرّ" من جهة، وبهدف تنفيذ التعهّدات السياسيّة التي وافق عليها "التيّار"، من جهة أخرى.

رابعًا: ترى القوات أنّه إذا كان حزب الكتائب يعتبر أنّ الدولة اللبنانية "مُتواطئة ومُتخاذلة ومُستسلمة"–كما وصفها رئيس حزب الكتائب النائب ​سامي الجميل​ في خطابه الأخير، وأنّ "لبنان محكوم من الخارج" وأنه جرى "تسليم سيادة الدولة للآخرين"، فعليه توجيه سهامه إلى العهد الرئاسي وإلى "التيار الوطني الحُر" وليس إلى "القوات" التي هي مُجرّد شريك في الحُكم يتكوّن من 4 وزراء من أصل 30 وزيرًا. وترى القوات أنّ النائب سامي الجميّل يُخطئ في توجيه البُوصلة عندما يُهاجم القوات بشكل يزيد في تشرذم المسيحيّين وفي إضعافهم، خاصة في صُفوف القوى السياديّة، بدلاً من السعي لإستمالة أغلبيّة شعبيّة مسيحيّة إقتنعت بالخُطاب الذي ينتهجه "التيار الوطني الحُرّ" ورئيسه ومؤسّسه، وصارت في مكان آخر تمامًا بعيدًا عن التموضع التاريخي للمسيحيّين في لبنان.

خامسًا: ترفض القوّات بشكل حازم حديث قيادة الكتائب عن الصفقات والإستسلام، وتُذكّر بأنّه عندما جرّبت القوات المُعارضة من خارج التركيبة الحاكمة مع حُكومة تمّام سلام، قامت الكتائب بالتغريد–كما دائمًا، خارج السرب، حيث سارعت إلى الإستحواذ على ثلاثة وزراء يعود إثنان منهم إلى حصّة القوّات آنذاك، ثم ومع إقتراب الإنتخابات النيابيّة ورغبتها بالإستفادة من النقمة الشعبيّة على الحُكّام، وبالتقارب من جماعات المُجتمع المدني، أعلنت إستقالتها من الحُكومة، مع تسجيل بقاء إثنين من وزرائها مُتمسّكين بالسُلطة! وتؤكّد القوات أنّ بقاءها اليوم في الحُكومة، ليس حُبًا بالسُلطة–كما غيرها، بل لأنّها متأكّدة من أنّ المُعارضة من داخل السُلطة التنفيذيّة هي أشدّ فعاليّة من المُعارضة من خارجها، وخير دليل على ذلك هو حملات الترغيب والتهديد التي تطالها للخروج من الحُكم.

وبالنسبة إلى الإرتدادات المُتوقّعة، لا شكّ أنّ الخلافات التي قسّمت القوى الحزبيّة المسيحيّة منذ عُقود بلغت اليوم ذروتها، حيث يبدو أنّ الجهات المسيحيّة الأربعة الرئيسة، أي كل من "الوطني الحُرّ" و"القوات" و"الكتائب" و"المردة"، صارت اليوم مقسومة بشكل غير مسبوق، لجهة أنّ كل حزب أو تيّار هو حاليًا ضُدّ الآخرين، إمّا من حيث التموضع السياسي الإستراتيجي العام أو من حيث التحالف الظرفي والتكتي. وهذا التوجّه مُرشّح للتصاعد مستقبلاً، مع الإقتراب من إستحقاقات نيابيّة ورئاسيّة مُقبلة، الأمر الذي يستوجب مُسارعة البطريركة المارونيّة إلى جمع مُختلف القوى الحزبيّة المسيحيّة تحت جناحيها، للتباحث في حدّ أدنى من التفاهمات على الخُطوط العريضة الواجب إعتمادها، مع حفظ حقّ الإختلاف وحقّ العمل السياسي الديمقراطي الحُرّ. لكنّ هذا التباين الحادّ في النظرة السياسيّة بين مُختلف القوى المسيحيّة، والذي يزداد إتساعًا مع الوقت، يجب أن يُعالج منعًا لتراكم مزيد من الأحقاد والعداوات، وتجنّبًا لمزيد من الضعف على مُستوى الساحة المسيحيّة، علمًا أنّه ما لم تتمّ مُعالجة هذا الضعف فإنّه من غير المُمكن بناء تفاهمات متينة ودائمة مع أيّ طرف إسلامي وعلى المُستوى الوطني العام.

(1)فاز حزب "الكتائب" بثلاثة مقاعد نيابيّة فقط، في مقابل فوز القوات بمجموع 15 مقعدًا، على الرغم من إعتماد الكتائب خُطابًا مُعارضًا شعبويًا، علمًا أنّ حتى هذا الفوز المحدود لا يعود لخُطاب ولنهج القيادة الكتائبيّة الحاليّة، حيث فاز النائب نديم ​بشير الجميل​ مُستفيدًا من إرث والده الرئيس الشهيد، وفاز النائبان سامي ​أمين الجميل​ وإلياس حنكش مُستفيدين بدورهما من إرث عريق يعود إلى الجدّ بيار الجميّل المؤسّس للحزب، إمتدادًا إلى نجله أمين الرئيس الأسبق للجمهورية اللبنانيّة.