إذا وصلت إلى أي انسان رسالة نصِّية على الواتس آب على هاتفه الذكي، فإنه بالكاد يقرأها خصوصًا إذا كانت كلماتها كثيرة، نحن في عصر السرعة الصاروخية والضوئية، ولا صبر لأحد على قراءة أكثر من كلمات معدودة، فكيف إذا كانت الحال لقراءة مجلَّد من 1089 صفحة ليست لرواية مشوِّقة أو مذكرات مثيرة أو "سيرة ذاتية" مهمة، بل مجلّد أرقام، أي كما يُقال ب​اللغة​ المتداولة "اللغة الناشفة التي تدعو بسرعة الى الملل؟" مع ذلك، لا بد من القراءة بتمهل وتأنٍ وتبصّر لأن الموضوع لا يتعلق بالرقم كرقم بل لأنه يتعلق بمصير حاضر اللبنانيين ومستقبلهم ومستقبل ابنائهم وأحفادهم:

إنها أرقامُ مشروعِ قانون ​الموازنة​ العام والموازناتِ الملحقة للعام 2020 التي وُضِعَت على جدولِ أعمالِ مجلسِ الوزراء يوم الثلاثاء من هذا الاسبوع.

وحسنًا فعل وزير ​المال​ ​علي حسن خليل​ بأن وضع في التداول نصّ المشروع المؤلف من 1089 صفحة، هكذا، انطلاقًا من المعرفة للمعرفة، يستطيع الجميع من دون استثناء: رؤساء ووزراء ونواب ومدراء عامون وخبراء وأكاديميون وإعلاميون وأساتذة جامعات أن يطَّلعوا على مشروع الموازنة ويُدلوا بدلوهم بأرقامها بالتزامن مع بدء مناقشتها في ​مجلس الوزراء​ تمهيدًا لإحالتها إلى ​مجلس النواب​ لتصدرَ في قانونٍ في نهايةِ هذه ​السنة​ أي في 31 كانون الاول 2019. ان شاء الله.

وما لم يقم كل معني بدوره، لجهة التمحيص في الأرقام، فعندها لا يحق لأحد التململ والإنتقاد.

***

مشروعُ قانونِ الموازنةِ يتضمّن 13 فصلًا، وأبرزُ ما فيه "المقدمةُ" التي تقعُ في 36 صفحة. في السطرِ الثاني من هذه المقدمة إدانةٌ لكل ما سبق وتحديدًا منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، حيث ورد حرفيًا: "أثبتت المعالجاتُ المقدمةُ منذ اوائل التسعينيات وإلى اليوم فشلَها الكبير في تصحيح الوضعِ المالي المتأزم".

عظيم، هل من جرأة في هذا النقد الذاتي أكثر من هذه الجرأة؟ وإذا كان الأمر كذلك فإن على المسؤولين ان يدفعوا هم الثمن لا الشعب، وهذا يقود إلى وجوب الإسراعِ في إقرارِ مشروعِ قانونِ استعادةِ الأموال المنهوبةِ الذي قدّمه التيارُ الوطني الحر.

***

وفي الصفحة ذاتها من المقدمة، يطالب وزيرُ المال "بالإزالة الفورية للحالات الشاذة و​المحميات​"... هنا مُطالبٌ وزير المال بجرأته المعهودة بتسمية "الحالات الشاذةِ والمحميات"... صحيح ان المواطن العادي يعرفها لكن المطلوب من المسؤول أن يسميها تمهيدًا لإزالتها، وبهذه الإزالة يتمّ تحقيق وفر هائل لخزينة ​الدولة​.

***

وفي قراءة للأرقام، فقد بلغ إجماليُّ الإنفاق في موازنة 2020 نحو 24 ألفاً و100 مليار ليرة (نحو 16 مليار ​دولار​) أما في موازنة العام 2019 فبلغ إجماليُّ الإنفاق 23 ألفاً و305 مليار ليرة (نحو 15.5 مليار دولار). والنتيجةُ زيادةُ الإنفاق في موازنة 2020 بنحو 795 مليار ليرة (أي 530 مليون دولار) عن موازنة 2019.

أما لجهة ​العجز​ الإجمالي في موازنة 2020، فإذا استندنا إلى حجم الإنفاق 24 ألفاً و100 مليار ليرة (نحو 16 مليار دولار) وحجم الإيرادات 19 ألف مليار ليرة (12.6 مليار دولار) يشكّل العجز 3.4 مليارات دولار.

أما بعد زيادة 1500 مليار ليرة (1 مليار دولار) قيمة اعتمادات ​كهرباء لبنان​ في موازنة 2020 يصبحُ العجزُ 4.4 مليارات دولار.

***

هذا هو الواقع الرقميُّ من دون زيادةٍ أو نقصان، ولتغيير هذا الواقع هناك احتمالان لا ثالث لهما، إما زيادة الإيرادات عبر مكافحة التهرب الضريبي، وهذا يستدعي قرارًا كبيرًا، وإما اعتماد الطريق الأسهل، بالنسبة الى الدولة طبعًا وليس بالنسبة الى المواطن، وهي: فرض رسم على صفيحة ​البنزين​ وزيادة الضريبة على ​القيمة المضافة​، وفق ما جاء في ورقة ​بعبدا​ الاقتصادية، وبما ينسجم مع نصائح ​صندوق النقد الدولي​، إضافة إلى زيادة تعرفة ​الكهرباء​.

***

هذه قراءة أوليّة، وعلى الجميع المشاركة في هذه القراءة، تمحيصًا وتحليلًا، لئلا نصل إلى إصدار الموازنة بقانون من دون تشذيب العيوب فيها.

وللبحث صلة... لأن النقاشَ في الموازنةِ وأرقامِها سيطول، ولأننا في موازنةِ العام 2019 "ظمتنا" فهل "نظمط" في موازنة 2020؟