لا يصحُّ الحَديث عن غَوْغائيَّة الإِعْلام في الدُّول المُتقدِّمة، الَّتي تَهْدف من خلال مجموع وسائِطها الإِعْلاميَّة، إِلى صَقْل شَخْصيَّة الأَفْراد، والدَّفع بهم نحو اتِّجاهاتٍ مُعيَّنةٍ، سواء إِيْديولوجيًّا، سياسيًّا، اقْتِصاديًّا، تَرْبويًّا، بيئيًّا أَو سياحيًّا… وعملاً بالآية القائِلة: "مِن ثِمارهم تَعْرفونهم"، يَنْبغي الوقوف على الثِّمار الإِعلاميِّ عندنا، لمَعْرفة نوعيَّة المادَّة الإِعْلاميَّة الَّتي تُقدَّم إِلى اللُّبنانيِّين، وتَحْليل الحَملات الإِعْلاميَّة وتَسْخير حقِّ المَعْرفة لخِدْمة الزَّواريب السِّياسيَّة والزَّبائنيَّة غير المُنزَّهة عن "الفَوْضى الهدَّامة"...

ففي ملفِّ الفَساد، ما المَقْصود مثلاً في تَعْميم هذه الآفة على كلِّ السِّياسيِّين، ورَفْع شِعار "كلُّن يَعْني كلُّن"؟...

وفي المَجال الطِّبيِّ، ما الهَدف مثلاً مِن التَّرْكيز (ماتراكَّاج) في الحَمْلة الإِعْلاميَّة على "ضَحايا" تَسْقط على يد أَطبَّاءٍ لُبْنانيِّين، مَشْهودٍ لهُم في العالَم بأَسْره؟... إِلاَّ إِذا كان الهَدف حِرْمان لُبْنان مِن أَنْ يُؤَدِّي دَوْرًا لَطالما لعِبَه، حينَ كان "مُسْتشفى الشَّرْق"، ومَقْصِد طالِبي الشِّفاء مِن كلِّ حَدْبٍ وصَوْبٍ...

وعلى الصَّعيد السِّياحيِّ، ما الهَدف مِن التَّشْهير بالمَطاعم والمُنْتجعات السِّياحيَّة، وتَأْكيد "عدم اسْتيفائِها الشُّروط" الصُّحيَّة المَطْلوبة، ومن ثمَّ العَوْدة إِلى مَنْحها "شَهادة حُسْن سُلوك"؟...

إِنَّ بَعْضنا –نحن الإِعْلاميِّين– يَرْكب مع الأَسف هذه المَوجة، لغايةٍ في نَفْس ​سياسة​ الوَسيلة الإِعْلاميّة الَّتي يَعْمل فيها، مُتسلِّحًا بـ"حريَّةٍ إِعْلاميَّةٍ" يَرْفع رايَتها، مُتناسِيًا في المُقابل "المسؤوليَّة الإِعْلاميَّة" كما والوطنيَّة، المُلْقاة على عاتِقه... وقَديما قيل: "مَن أَخْفى علَّته قَتَلته"، لذا فقد وجُب الإِقْرار...

لطالَما كان الخِطاب الإِعْلاميُّ واقعيًّا، يَصِف ما حصَلَ عن طَريق صَوْغِ الأَحْداث، وتَحْويلها مُجدَّدًا، وقد كان قادِرًا على الإِقْناع... غَيْر أَنَّ الصِّحافة تغيَّرت من حَيْث دلالتها، وسط أَشْكالٍ جديدةٍ لمُمارسة "مِهْنة البحث عن المشاكِل"، مع بروز دور "صِحافة الإِنْترنِت" و"تكنولوجيَّات الاتِّصال الحَديثة"، ما أَسَّس فِعْلاً لتَغْييرٍ جَديدٍ في مَفْهوم مِهْنة الصِّحافَة ودَوْر الصِّحافيِّ على حدٍّ سَواء.

لكنَّ السَّلْبيَّة تَطْغى الآنَ الخِطاب الإِعْلاميِّ، لأَسْبابٍ تَعود إِلى التَّوْظيف والاسْتِغلال، ما تَسبَّب بآثارٍ سلبيَّةٍ في فِكْر شباب اليوم، فبَاتوا يَتَّسِمون بالتَّشاؤميَّة، الأَنانيَّة، عدم الثِّقة وضُعْف الرُّوح الوَطنيَّة... في ظلِّ غِيابِ الكَثير مِن عَوامِل تَهْدِئة الوَضْع، ونَدْرة الدَّعوات إِلى "التَّكاتُف والتَّكافُل والتَّعاون"، وتَرْسيخ أُسُس الأَمان المُجْتمعيِّ وروح المُواطَنة الحقَّة، وفي غيابٍ شبه كُليٍّ لدَوْر الإِعْلام الرَّسْميِّ كما الخاصِّ، في تَوْظيف خِطابه في الدَّعْوة إِلى التَّكاتُف والانْسجام، وعَدم إِشاعة السَّلْبيَّات في شَكْلٍ واسعٍ بَيْن النَّاس، والإِغْفال عن الإِيْجابيَّات الواضحة للعَيان...

كما وذهب إِعْلامُنا بعيدًا في الانْغِماس في "النَّموذَج التَّسْويقيِّ التِّجاريِّ، خِدْمةً للمَصالح الذَّاتيَّةِ، وأَحْيانًا للأَيْديولوجيَّة الفِكْريَّة، من دون أَخْذ النَّسيج المُجْتَمعيِّ في الاعْتِبار، والتَّحلِّي بالمَسْؤوليَّة تِجاه الوطن... ومِن هُنا يُمكن فَهم سَبب نَشْر مُحْتَوياتٍ إِعْلاميَّةٍ تُضرُّ بِصُورة الوَطن داخليًّا وخارجيًّا، فالكَثير من الوَسائل الإِعْلاميَّة، يَنْتهج أُسْلوب البَحْث عن الإِثارة، لرَفْع نِسب المُشاهَدة، وزِيادة حَجْم المَبيعات، فإذا بِنا وقد دَخلْنا نَفقًا مُظلِمًا، لا نَلْمحُ فيه إِلاَّ السَّواد الحالِك، وقد باتَت حَياة اللُّبْنانيِّين تَقْتصر على أَخْبار الجَريمة والسَّرقة والاعْتِداء، والمَشاريع المُتأَخِّرة والبَطالة وأَزْمة السَّكن… فيما المَطْلوبُ اليَوْم إِعْلامٌ لا يَقِف عند عَتَبة "النَّق"، بل يُحْسن قَوْل الحَقيقة كَما هي، ومَهْما كانَت صَعْبة، ليُصارَ إِلى الإِصلاح.

وأَمَّا للْقائِلين إِنَّ الفَساد اسْتَشْرى في زَمَن "العَهْد القَويِّ" فالرَّدُّ عليهم يَكون بالتَّأْكيد حُكْمًا أَنَّ عَهْد الرَّئيس العِماد ميشال عَوْن هو فِعْلاً قويٌّ، أَوَّلاً لأَنَّه لا يُواربُ في كَشْفِ النِّقاب عن فَسادٍ يبدو وكأَنَّه أَبديٌّ أَزليٌّ لا يَزول... ومن ثمَّ لأَنَّ الرَّئيس عازمٌ على تَسْليم البِلاد إِلى خَلَفه، وقد اسْتَحْدث فيها نَقْلةً نَوْعيَّةً، والعِماد إِنْ وَعَد وَفى... غَيْر أَنَّ مُعادلة: "إِعْلام سَلبيّ لعَهْدٍ قويٍّ" يَنْبَغي "تَغْييرُها وإِصْلاحُها"... واسْتِبْدالها لتُضْحي "لكلِّ مَقامٍ مقال" يَحْمل الحَقيقة مِن دونِ تَشْهيرٍ ولا تَشَفٍّ... وللحَديث صِلَة...