يمر ​لبنان​ حاليا بأزمة اقتصادية خطيرة لم يرَ مثلها منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي عندما كان البلد يلملم جراحه من آثار الحرب اللبنانيّة التي دمرت جميع معالمنا البنيوية و​الاقتصاد​ية والاجتماعية.

لقد مر لبنان منذ الاستقلال بالكثير من الأزمات السياسية والهزات الاقتصادية ولكن بالنظر إلى الأزمات الاقتصادية حصرا، فيمكننا حصرها نظرا لحجمها وخطورتها وتوقيتها بثلاثة.

الاولى، كانت بعد الاستقلال بحوالي ربع قرن وتمثلت بإنهيار بنك "انترا" عام 1966، والذي كان حينها أكبر مصرف في لبنان، اذ كان يستحوذ على حوالي 15 بالمئة من مجمل ودائع المصارف اللبنانيّة، مما أدى إلى زعزعة الثقة ب​القطاع المصرفي​ اللبناني ككل، والذي كان يعد حينها مركزاً للودائع العربية والاستثمارات الأجنبية في الشرق الأوسط.

الأزمة الثانية، كانت بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة في مطلع التسعينيات أي بعد أزمة "انترا" بحوالي ربع قرن، وتمثلت بانهيار حاد في سعر صرف الليرة والذي وصل أقصاه إلى ثلاثة آلاف ليرة للدولار الواحد مع انهيار كامل لجميع البنى التحتية المالية ولجميع معالم الدولة، ما استدعى اللجوء إلى تركيبة جديدة للنظام النقدي يعتمد بشكل أساسي على نظام مصرفي قوي وتدفق أموال خارجية.

أما الآن وبعد حوالي ربع قرن آخر على ثاني أزمة، يعاني البلد من أزمة جديدة حادة على جميع الأصعدة، فالاسس التي بنيت عليها انظمتنا الجديدة في أوائل التسعينيات بدأت تنهار تدريجيا منذ عام 2011 مع تطورات وتقلبات سياسية وأمنية كبيرة على صعيد المنطقة بلغت ذروتها هذه السنة.

المفارقة أن أزمة اليوم هي اقتصادية وليست نقدية كما يقول البعض، وكما كانت أزمة "انترا" (بغض النظر عن ظروفها)، خصوصاً من ناحية الغطاء والدعم الخارجي.

إن هذه النقاط توصلنا للقول أن احد اهم ركائز هذا النظام المالي الحالي هي تدفق الأموال الخارجية، والتي لم تعد بالقوة ذاتها في السنوات الماضية، والدليل هو العجز القائم بميزان المدفوعات منذ عام 2011 حتى الآن (باستثناء سنة 2016 حين سجل فائضا بقيمة 1.2 مليار دولار بسبب الهندسات الماليّة الاستثنائية التي قام بها ​مصرف لبنان​ حينها)، وذلك يعود لعدة أسباب أهمها تراجع السياحة بشكل كبير وتراجع كبير لتدفق أموال المغتربين.

من الواضح أن هذين العاملين لن يعودا إلى ما كانا عليه في فترة ما قبل العجز وذلك لعدة أسباب أهمها العوامل الأمنية والسياسية بما يتعلق بالسياحة، وبسبب تراجع اقتصادات الدول التي يقطنها المغتربون مع ما يرافقها من تراجع في الإيرادات وفي فرص العمل فيما يتعلق بأموال المغتربين. اذا فالحل اليوم هو بإيجاد طرق بديلة لتغطية العجز القائم والمتراكم في ميزان المدفوعات، قد يكون أفضلها ايجاد طرق لدعم وتقوية لصناعاتنا القادرة على المنافسة في الأسواق الخارجيّة، وهذا قد ينتج عنه تدريجيا تغطية العجز النقدي القائم.

أخيراً، ربما تكون هذه أزمة الربع قرن، ولكن الأهم ان الحلول قد تكون كثيرة وما نحتاجه هو الإرادة والإدارة الحكيمة والمسؤولة، فهل سنكون على قدر الطموحات والتوقعات للبدء بالخروج من الأزمة الراهنة وبداية الخروج من نظام الاقتصاد الريعي؟!.