أشهر صعبة وحاسمة تنتظر ال​لبنان​يين الذين يشعرون يوماً بعد يوم بأنّ عوارض الأزمة الاقتصادية- المالية آخذة في التفاقم. أمّا سلوك الدولة في مواجهة هذه الأزمة ومفاعيلها، فلا يزال يفتقر حتى الآن الى ثقة جزء كبير من الداخل والخارج، بل انّ هذه الثقة تبدو مفقودة حتى بين عدد من اركان السلطة أنفسهم، على ما تكشفه المناكفات المتنقلة.

المفارقة العجيبة التي ترافق النزيف الحاد في الجسم اللبناني، هي انّ جميع المعنيين في الدولة يعترفون بالخطورة الفائقة للوضع الاقتصادي- المالي، ويحذّرون من احتمال الوقوع في المحظور ما لم تُتخذ تدابير فورية لتجنّبه، لكنهم يتصرفون في الوقت كمن يُسابق قطار الازمة السريع على إيقاع السلحفاة، وسط اتهامات متبادلة بعدم الجدّية وبنقص في التحسّس بالمسؤولية!

والمفارقة الاخرى تكمن في أنّ كل طرف لا يزال يسعى الى تفادي تقديم التنازلات من كيسه عندما يتعلّق الامر بترشيق الأحجام وتخفيف الأعباء الملقاة على عاتق الخزينة، وبالتالي يُنتظر من القوى الاخرى ان تبادر،هي، الى التضحية ببعض ما تملكه من مكتسبات، لعله ينجو، هو، من تجرّع هذه الكأس المرّة.

بهذا المعنى، فانّ معظم القوى تلعب على حافة الهاوية وتحاول حتى الرمق الاخير الحؤول دون ان تأتي المعالجات والتضحيات على حسابها، من دون الاخذ في الاعتبار انّ السقف المتفسّخ والمترنّح قد ينهار في اي لحظة على الجميع بلا استثناء، وعندها لن تنفع مظلة هنا او خيمة هناك للنجاة من الغرق في بحر الركام.

وإذا كان هناك في السلطة من يظن انّ بإمكانه ان يستمر في الهروب الى الامام والتحايل على الواقع، إلّا انّ أحد الوزراء «أفرج» عن الحقيقة الكاملة والصادمة، خلال لقاء مغلق مع بعض الاقتصاديين، حيث قال لهم: «بما انّ الباب مقفل ولا يوجد صحافيون معنا، اريد ان اصارحكم بأننا لسنا على عتبة الانهيار، بل أصبحنا في المرحلة الاولى منه، ولا اخفيكم سراً انني أشعر عند كل صباح بالقلق من التفاعلات المحتملة لهذه الازمة في الشارع. لكن الاوان لم يفت بعد لوقف الانزلاق نحو القعر والعودة الى برّ الامان، وجميعنا مسؤولون عن المساهمة في هذا الجهد».

ويراقب السفراء الاجانب في ​بيروت​ السلوك الرسمي المتّبع في مواجهة الأزمة المتدحرجة، مع الاشارة الى انّ السفراء الاوروبيين هم الاكثر اهتماماً بالرصد وملاحقة التفاصيل، انطلاقاً من دورهم السابق واللاحق في مؤتمر «سيدر»، الذي منح ​الدولة اللبنانية​ «شيكات متأخّرة»، يبدو انّها ستبقى ممنوعة من الصرف، الى ان تنال ​الحكومة​ شهادة حسن سلوك و»براءة ذمّة» مالية من ​المجتمع الدولي​.

وعشية زيارة الرئيس ​سعد الحريري​ ​باريس​، حيث سيلتقي الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ في اطار السعي الى «تخصيب» مقررات مؤتمر «سيدر»، نقلت شخصية لبنانية عن سفير اوروبي بارز تأكيده انّ خطوات الدولة اللبنانية، حتى الامس القريب، «لم تكن قد ارتقت بعد الى مستوى التحدّيات والاستحقاقات الداهمة».

وتنسب تلك الشخصية الى السفير إيّاه قوله، عندما يزور المسؤولون اللبنانيون الخارج يؤكّدون لمن يلتقون به انّ الامور الاقتصادية والمالية في بلادهم قيد المعالجة، وانّ الاصلاحات المطلوبة تتحقق. ملمحاً الى ضرورة وقف هذه المراوغة بإشارته الى أنّ «البعض يظن اننا لا نقرأ، ولا نعرف هشاشة الواقع، وان هناك بطئاً شديداً في تنفيذ الاجراءات الملحة».

ويلفت السفير الاوروبي، وفق ما يُنقل عنه، الى انّ «لدى لبنان مهلة قصيرة لا تتعدّى الاشهر القليلة لإثبات جدّيته في تطبيق التدابير الانقاذية الضرورية، وبالتالي للخروج من المأزق الكبير الذي يواجهه»، مشيرًا الى أنّ السياسات التي اعتُمدت في المرحلة الماضية لم تكن متناسبة مع حجم المخاطر، «ويجب تغييرها لتصبح أكثر استجابة لمتطلبات الانقاذ، وهو الامر الذي ينبغي ان تترجمه بوضوح موازنة عام 2020».

ويضيف السفير: «يتراءى لي انكم لستم جاهزين بعد لتلقف مشاريع «سيدر»، وعندما تجهزون سنكون حاضرين للتعاون معكم. نحن ننتظر ان تستكملوا شروط النجاح المطلوبة حتى تدخلوا الى صف «سيدر»، علماً انّ الاصلاحات المقترحة انتم من وضعتموها والتزمتم تطبيقها، لكن التقيّد بها لم يكن كافياً لغاية الآن، والمؤسف انّ أغلب المسؤولين هنا ليس لديهم حنان على دولتهم وشعبهم».

وتلاحظ الشخصية الديبلوماسية أنّ «أغلب السياسيين يعتمدون طريقة شعبوية في محاكاة الازمة المستفحلة»، لافتة الى انّ «المسؤولين الرافضين لوصفات ​صندوق النقد الدولي​ يجب ان يعلموا انهم إذا استمروا على هذا المنوال، فقد يأتي يوم يصبحون فيه ملزمين بقبول الحلول المرّة التي يطرحها الصندوق، انما من دون ان تكون مرفقة هذه المرة بأي مقدار من «السكاكر» التي تُستخدم أحياناً بنسبة قليلة لتسهيل ابتلاع الحلول الصعبة على الدول المتعثرة».

ولعلّ أبلغ توصيف للمأزق المعقّد الحالي عكسه سفير اوروبي آخر في بيروت، حين صارح محدثه اللبناني بالقول: الطريقة التي كانت معتمدة من قبلكم طيلة الفترة السابقة في مقاربة الازمة الاقتصادية- المالية لا تفيد ولا تعكس إحاطة حقيقية بالواجبات الملقاة على عاتقكم. أمامكم مريض يحتضر وكل ما تفعلونه في المقابل هو انكم تحاولون ان تغطوا شحوبه الشديد ببعض مساحيق التجميل.