حين أخذت ​روسيا​ و​الصين​ أول فيتو مزدوج في ​مجلس الأمن​ في 4/10/2011 ضد المخططات العدوانية الغربية التي تستهدف سورية أرضاً وشعباً غصّ مكتبي بوسائل الإعلام العربية والأجنبية ليسألوني ما هو شعور ​القيادة​ السورية و​الشعب السوري​ تجاه هذا الفيتو غير المسبوق في مجلس الأمن. وأتذكر أنني وبعد شكر الدولتين على موقفهما من سورية ودعمهما للشعب السوري قلت: لقد تغيّر ​العالم​ اليوم، وأثر هذا الفيتو لا يخصّ سورية وحدها وإنما يخصّ العالم بأسره، لأنه الإشارة الأولى لانتهاء هيمنة القطب الواحد والانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب، الأمر الذي تصبو إليه معظم شعوب العالم بعد أن عانت من الحروب الكارثية الأمريكية. واليوم وبعد ثماني سنوات تقريباً بالضبط، تستخدم كل من سورية والصين في مجلس الأمن في 19/9/2019 حق الفيتو لإجهاض قرار مبني على الأكاذيب التي روّجها البعض في محاولة أخيرة ومستميتة منهم لحماية ما تبقى من فلول الإرهابيين في إدلب والذين يشكلون آخر ما لديهم من أدوات إرهابية من الخونة والمرتزقة الأجانب للاستمرار في استهداف الشعب السوري والذي تمكّن وبمساعدة الحلفاء والأصدقاء من إحباط كل مخططاتهم التي كلّفتهم المليارات، كما كلّفتهم سمعتهم وكشفت عن جوهر نواياهم العدوانية وحقيقة مقاصد سياساتهم الاستعمارية القائمة على النهب والحروب. أما اليوم وبعد ثماني سنوات من الفيتو الأول المزدوج فماهي مؤشرات ​السياسة​ الدولية وإلى أين تتجه الأمور؟

لقد استمرت الدول الاستعمارية الغربية خلال هذه السنوات بممارسة طرائقها الشيطانية المعروفة من إعلام كاذب ومغرض يقلب الحقائق رأساً على عقب، وبثّ روح الفتنة الطائفية لشق صفوف الشعوب في البلدان المستهدفة، أملاً منها بتفتيت هذه البلدان من الداخل مستخدمين الخونة وضعاف النفوس والوعي. وواكبت خطواتها هذه بفرض ​عقوبات​ مجرمة على الشعوب والبلدان تسببت في قتل مئات الآلاف من الأشخاص إما بسبب نقص الغذاء أو الدواء أو ​الطاقة​، غير آبهة بأية معاناة إنسانية في أي مكان. وكانت العقوبات والتهديدات السمتين الأساسيتين لهذه المرحلة مع استمرار استخدام العصابات الإرهابية المأجورة من الخونة والمرتزقة حيثما أمكن ذلك لتغيير ميزان القوى لصالحها. ولكن ماهي النتيجة الحقيقية التي تزداد ثباتاً على الأرض يوماً بعد يوم بعيداً عن تهويل الأكاذيب الزائفة التي تصيغها مخابراتهم معتمدة على مخبريهم من المرتزقة والتي يقومون ببثها على أكبر مساحة في أكبر عدد من وسائل تواصل أصبحت مكشوفة للجميع؟ حقيقة الأمر هي أن هذه السنوات قد كشفت بما لا يقبل الشك حقيقة النظم الاستعمارية الغربية وأنها نظم تهدف أولاً وأخيراً إلى نهب ثروات الشعوب وخاصة ​النفط​ العربي، معتمدة على النظم النفطية المتهالكة حيث لا تقيم وزناً لهذه الشعوب ولا للحياة الإنسانية في أي مكان. فسقطت أقنعة ما أسموها" منظمات إنسانية" أو "حقوق إنسان" أو " أطباء بلا حدود" أو " ​الخوذ البيضاء​"؛ لنكتشف أن معظم هذه المنظمات مجنّدة من قبل المخابرات الغربية، إما للتجسس على من هم في أماكن تواجدها أو لجمع الأموال ل​تمويل الإرهاب​. كما سقطت وبشكل صارخ مقولة "الإعلام الحر" وأصبح واضحاً للجميع أن الإعلام الغربي يخدم دوائر صنع القرار السياسي والمخابراتي والأهداف التي ترسمها هذه الدوائر لزيادة ثروات النخبة الرأسمالية الحاكمة من خلال قمع الآخرين وفرض أقسى العقوبات عليهم، وفي هذا الصدد، والحق يقال، كانت الحرب على سورية أول كاشف لحقيقة هذا النظام الرأسمالي الغربي وأهدافه بعيداً عمّا يروّج له من أكاذيب. كما كان صمود ​الجيش​ العربي السوري بدعم من الحلفاء والأصدقاء والأشقاء وبمساعدة المواقف التي اتخذتها روسيا والصين في مجلس الأمن ملهماً للآخرين ومبرهناً على أن ما تخطط له ​الولايات المتحدة​ ليس قدراً، وأن الشعوب قادرة وبإمكانات ضئيلة على الانتصار على الباطل مهما كانت قوته وثرواته. خلال الحرب على سورية أخذت ​كوريا الشمالية​ مواقف هامة في مقارعة الولايات المتحدة وأثبتت أنها قوة لا يستهان بها. وخلال الحرب على سورية اخذت ​فنزويلا​ موقفاً جريئاً وهاماً من العقوبات الأمريكية وتهديد الولايات المتحدة باجتياح فنزويلا وتغيير الحكم بها، وصمد الشعب الفنزويلي رغم العقوبات الظالمة والتهديدات المستمرة عليه. وفي الحين ذاته انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي ال​إيران​ي مع ضجة إعلامية كبرى بأن هذا الانسحاب سينهي إيران وسيجعلها لقمة سائغة لمن يستهدفها من عملاء الولايات المتحدة. كما راهنوا على بثّ الفرقة بين أبناء الشعب الإيراني وسخّروا كل إمكاناتهم لهذا الهدف، ولكن أين هم الآن رغم كل العقوبات المجرمة التي اتخذوها بحق إيران والتي ولا شك سببت مصاعب جمة لكل الإيرانيين ولكنهم صمدوا وتفوقوا بإرادتهم وإصرارهم وكبريائهم على كلّ محاولات الغرب لخرق صفوفهم أو النيل من صمودهم. أما حرب ​اليمن​ فقد ضربت مثلاً في صمود شعب فقير لا يملك إلا النزر اليسير، في وجه قوى مموّلة ومتغطرسة، وقلب هذا الشعب الأبيّ معادلة العدوان ليصبح هو الذي يحدد سير المعركة. ومع أن روسيا الاتحادية نالت نصيباً كبيراً من العقوبات الأمريكية فقد استمرت بإثبات ذاتها على الساحتين الإقليمية والدولية كقطب لا يمكن تجاهل آرائه ومواقفه بعد اليوم. وبالتوازي؛ فإن كلاً من الصين وروسيا وإيران وسورية وفنزويلا واليمن و​العراق​ وكوريا تنشر ثقافة العالم المتعدد الأقطاب وتبرهن للعالم مع كل مطلع شمس أن هذه العقوبات لن تؤثر في مسار الدول الرافضة للظلم والهيمنة، وأنها لا تزيد الذين يعانون منها إلا إصراراً، ليس على تجاوزها فقط وإنما على تجاوز النظم التي فرزتها وجعلت منها أداة لكسر إرادة الشعوب وفرض المسار الاستعماري عليها. اليوم وبعد سنوات ثمانٍ من أول فيتو مزدوج تأخذه روسيا والصين في مجلس الأمن، فقد النظام الاستعماري الغربي قدرته على إقناع أحد بالسير على خطاه كما فقد قدرته على إقناع العالم أنه قابل للعيش والاستمرار. اليوم البحث جار في دول كثيرة وعلى مستويات مختلفة عن صيغ ديموقراطية تناسب ثقافة وتاريخ الشعوب والبلدان ولا تمتّ إلى الليبرالية الغربية بصلة.

اليوم يتشكل العالم الجديد على أسس مختلفة عن تلك التي أمسك بها الغرب وفرضها على معظم دول العالم. اليوم بداية مسار تحرر للبلدان والشعوب، تحرر ليس فقط من الهيمنة العسكرية الغربية والنهب الاستعماري، وإنما تحرر من القرار الغربي ومن كلّ تمظهراته، بعد أن انكشف مرة وإلى الأبد بُعد هذا النظام عن المعيار الإنساني الحقيقي . اليوم لا يمكن للغرب أن يتحدث عن نفسه كما اعتاد منذ سنوات قليلة مدعياً أنه الأسرة الدولية، فالأسرة الدولية تتشكل في مكان آخر وعلى أسس وقيم مختلفة جذرياً عمّا اعتاد الغرب على فرضه على العالم منذ عقود. لاشك لدي أننا وبعد سنوات قليلة سنكون قد اجتزنا جزءاً هاماً من الدرب الذي بدأ أول مؤشّر له في 4/10/2019 .