ما من شك في أنّ الهجوم الذي تعرضت له منشآت «أرامكو» أحدثَ صدمة لدى الجميع، بسبب جرأته وذهابه بعيداً في إطار النزاع الدائر بين ​إيران​ و​السعودية​. ومنذ إعلان الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ العقوبات القاسية على إيران مطلع شهر أيار الماضي، إتخذت ردود الفعل الايرانية منحى تصاعدياً، تدرّجَ من تفجير ناقلات ​النفط​ في البحر، الى إسقاط طائرة التجسّس الاميركية الأحدث والأكثر تطوراً وكلفة، وصولاً الى قصف منشآت «أرامكو»، في عملية عسكرية لا يزال بعض جوانب تنفيذها غامضة.

صحيح انّ ​الحوثيين​ أعلنوا مسؤوليتهم عن العملية، إلّا انّ الهجوم ما كان ليحصل لولا الرعاية الايرانية، وربما نزولاً عند طلبها.

وقد يكون أمَل بعض ال​دول الخليج​ية قد خابَ من ردّة الفعل الاميركية. في الواقع، لا بدّ لهذه الدول من أن تُقنع نفسها بأنّ ​الادارة الاميركية​ الحالية ليست بوارد الدخول في حروب عسكرية، لا في ​الشرق الاوسط​ ولا في أي مكان آخر في العالم.

وهذا بالضبط ما تُراهن عليه طهران، في إطار سلوكها الهجومي الذي تعتمده. ولتحصين القرار الاميركي «بالنأي» عن الحرب، فإنّ طهران تُحاذِر في هجماتها من سقوط ضحايا بشرية أو استهداف منشآت وأهداف عسكرية تقليدية. هكذا حسبت حين استهدفت ناقلات النفط ومن ثم طائرة الاستطلاع المتطورة، وكذلك منشآت «أرامكو» حيث حصل الهجوم وفق توقيت مدروس. فالشارع الاميركي الذي تَعب من حروب ​افغانستان​ و​العراق​ لا يريد حروباً أخرى، بل على العكس يريد خروجاً من مستنقعات الشرق الاوسط، وهي كانت إحدى وعود ترامب الانتخابية.

وفي آخر الاستطلاعات، فإنّ معظم الاميركيين يرفضون الانزلاق في إجراءات تصعيدية، ومن بين هؤلاء 81 في المئة من الجمهوريين. أضِف الى ذلك القيادة العسكرية الاميركية نفسها التي تضغط في اتجاه منع الامور من الانزلاق.

ولا بد من الاعتراف أيضاً بأنّ النفط العربي لم يعد بمرتبة الاهمية القصوى للاميركيين. فالنفط الصخري الموجود بكميات هائلة في ​الولايات المتحدة الاميركية​، لن يدفع الاميركيين للاصطفاف بطوابير كبيرة امام محطات البنزين، كما حصل إبّان أزمة عام 1973.

لكنّ النفط العربي يبقى مهماً في إطار التأثير على إمدادات الطاقة للدول الاخرى، وفي طليعتها ​الصين​ و​أوروبا​.

وهنا بيت القصيد. فالرئيس الاميركي وَجدَ، في استهداف «أرامكو»، فرصة أكثر منه تهديداً. فارتفاع أسعار النفط سيؤدي الى الإضرار بالمصالح الاقتصادية لدوَل تُنافسه، فيما الأسواق الاميركية قادرة على الاستمرار بأسعار أدنى. كما انّ إعادة إصلاح منشآت «أرامكو» سيقع على عاتق الشركات الاميركية التي ستَنتعِش صناديقها. كما انها ستُلزم ​الدول الخليجية​ بعدم مُعانَدة الطلبات الاميركية، بدءاً من المال ووصولاًَ الى الالتزاما ت السياسية والعسكرية، وهذا ما حصل.

خلال الشهر الماضي، برزت المبادرة الفرنسية بين واشنطن وطهران، والتي ارتكزت على فكرة إعادة تأمين ما حَجبته عقوبات ايار الماضي في مقابل تنازلات شكلية من جانب الايرانيين. لكنّ بعض رجالات الادارة الاميركية اعتبر ذلك بمثابة تحوّل كبير في السياسة الاميركية. وكان من بين هؤلاء جون بولتن الذي دفعَ ثمن مواقفه المعارضة في إيران وافغانستان وأماكن أخرى من العالم.

لكنّ حدود المشهد لا تقف هنا فقط، فإيران ما كانت لتتجرّأ وتذهب في سلوك هجومي لولا مساندة صينية - روسية، فبكّين كما موسكو تدافعان عن مصالحهما الدولية من خلال ايران، كون انتهاء واشنطن من ملف طهران سيجعلها تنتقل فوراً الى معركة احتواء الصين.

ومعه باتَ ترامب أمام نقيضين: الأول، عدم الانزلاق في اتجاه اي حرب طالما انّ الشارع الاميركي لا يشعر بأيّ تهديد مباشر. والثاني، سَعيه للمحافظة على صورته كرئيس أميركي «قوي» يُطلق تهديداته الراعدة فينفّذ العالم طلباته.

وبالتالي، فإنّ ​البيت الابيض​ لا يريد خطوات او ردود تدفع بالأمور في اتجاه الحرب، ولكنه لا يريد أيضاً ترك الامور من دون ردود، لأنّ ذلك سيشجّع ايران ومعها الصين و​روسيا​ لاحقاً على تجاوز الهَيبة الاميركية في أي مكان أو زمان.

لذلك، هنالك من يتوقع رداً صامتاً يُرضي دول الخليج، ويوجّه رسالة رَدّ اعتبار.

والمقصود بالعملية الصامتة، عملية أمنية من دون بصمات. وهو ما سَبق أن حصل مثلاً لدى استهداف ​الحرس الثوري الايراني​ في ​الأهواز​. والعملية حصلت بتنسيق أمني خليجي - أميركي. ما يعني احتمال حصول عملية مُشابهة، تستهدِف هذه المرة منشآت نفطية إيرانية، ويكون لها صدى قوياً.

وهو ما يلبّي طَلب الثأر السعودي ويوجّه رسالة لإيران، لكن من دون إعطائها الذريعة للرد، خلافاً لِما سيحصل لو حصلَ عمل عسكري مباشر.

فالرئيس الاميركي ما زال يراهن على مفاوضات مع ايران قبل دنو موعد انتخاباته بعد أكثر من سنة، ولذلك ربما فَضّل تعيين روبرت اوبراين مستشاراً للأمن القومي، وهو الخبير في فنون التفاوض الصعب.

في كل الاحوال، إنّ منطقة ​الشرق الأوسط​ تشهد تحولات كبيرة تتطلّب تعديلات جذرية في النظرة السياسية، كمثل سقوط بنيامين نتنياهو في ​اسرائيل​ واندفاع روسيا لملء الفراغات الاميركية في منطقة الشرق الأوسط.