قبل يوم 25 آب/ أغسطس الماضي كانت نظرة جميع أهل الاختصاص والباحثين الاستراتيجيين في المنطقة قائمة على أساس أن منطقة الشرق الأوسط بما تحتوي على أهداف استراتيجية أساسيّة كبرى هي منطقة حيوية للغرب بقيادة أميركية وأن الغرب لا يمكن أن يقف مكتوف الأيدي أمام أي تهديد مهما كان مداه لأي هدف من تلك الأهداف مهما كان حجمه، وان رد الغرب قد يكون حرباً تدميرية ضد أي طرف يشكل هذا التهديد. وهذا بالفعل ما حصل ل​صدام حسين​ عندما اجتاح ​الكويت​ وهدّد جزئياً أحد الأهداف الاستراتيجية للغرب المتمثل بنفط الكويت والهيمنة الغربية عليه.

وكان الغرب ويظن انه لا زال يعتبر منطقة الشرق الأوسط قلب ​العالم​ الذي يحتوي على معظم الاحتياط النفطي العالمي، وعلى الممرات المائية الرئيسية الضرورية لتجارة العالم، وفيه ​القاعدة​ الغربية الأساسية ​إسرائيل​ ، ولأجل ذلك نشر الغرب عامة و​اميركا​ خاصة القواعد العسكرية في المنطقة لتأمين فرض سيطرته عليها ومنع تشكل أي حالة تهدد أمن او مصير أي من الأهداف الاستراتيجية الكبرى الثلاثة السابقة الذكر نفط، ممرات، إسرائيل .

وبالمناسبة نقول إن ​أميركا​ وحدها نشرت في المنطقة 65000 جندياً بشكل دائم وتتحضر لتشكيل تحالف دولي لمعالجة أي تهديد او خطر يحدق بالأهداف الاستراتيجية تلك، وصولاً الى الاستعداد لحشد قوى عسكرية مركبة برية وجوية وبحرية قد تصل الى 400 ألف جندي وضابط كما فعلت في مرات سابقة في العقود الثلاثة الماضية. وقد أقامت أميركا لأجل انتشار جنودها في المنطقة 54 قاعدة عسكرية، دعمتها بأساطيل ثلاثة هي الخامس والسادس والسابع.

هذه القوة الدائمة معطوفة على إمكانية تعزيزها على الدوام بقوات إضافية فاعلة، أقنعت دول ​الخليج​ وغيرها من دول المعسكر الأميركي بأنها تنعم بالحماية الأميركية وأن لها أن تطمئن الى وجودها ومستقبلها في مواجهة أي تهديد داخلي او خارجي. وهي ومن اجل الاستفادة من هذه الحماية والدفاع عن أنظمتها في وجه شعوبها ووجه أي كان في المنطقة او خارجها ليست بحاجة لبناء الجيوش الفعلية، بل هي ملزمة بدفع ​المال​ للغرب تحت عنوان شراء الأسلحة وتأمين الرعاية واستمرار التبعية والهيمنة الأميركية عليها. وكانت أنظمة الخليج مطمئنة كلياً أن مالها المدفوع للغرب عامة ولأميركا خاصة سيؤمن لها الحماية المطلقة والتامة بوجه أي كان.

بالقوة تلك تمكنت أميركا أن تمتلك السيطرة على المنطقة وأن تؤمن لنفسها الهيمنة الدائمة واستجرار الثروة والمال وارتكازاً على تلك القوة بوجهيها المادي – التشكيلات العسكرية المختلفة – والمعنوي الناشئ عن الهيبة العسكرية المقرونة بالقوة السياسية والدبلوماسية، أخضعت اميركا قوى المنطقة دولاً وكيانات غير رسمية لقرارها وبات الموظف في ​السفارة الأميركية​ في أي دولة من تلك لدول هو الحاكم الفعلي لها.

لكن هذا الوضع بدأ يهتز مع ظهور مقاومة رافضة له، حيث نشب صراع بين دعاة الاستعمار وإقامة ​الشرق الاوسط​ المستعمر أميركياً من جهة، وبين الطامحين الى إقامة شرق أوسط لأهله متعاون مع دول العالم في حدود الاحترام المتبادل الذي يحفظ الاستقلال والسيادة الوطنية والشعبية لشعوب وكيانات المنطقة من جهة اخرى.

وفي خضم هذا الصراع اندلعت حروب ومواجهات عميقة خلال العقود الماضية، إلى أن كانت الحرب بـ القوة البديلة التي أضرمت نارها في المنطقة تحت عنوان الربيع العربي ، حرب ابتغى من شنها المعسكر الأميركي ضرب المقاومة الرافضة لاستعمار الغرب، وتفكيك المحور او الجبهة المقاومة التي راحت بعد العام 2000 تتوسّع وتشمل كيانات وفئات شعبية واسعة تنتشر على كامل جغرافيا الشرق الاوسط.

لقد ظن أصحاب المشروع الاستعماري أن حربهم بالقوى البديلة ذات الطبيعة الإرهابية الإجرامية، ستمكنهم من تدمير المنطقة وتجويع أهلها ومن ثم إخضاعها بعد إعادتها عشرات العقود الى الوراء ما سيشغل أهلها عن التفكير بالحرية والاستقلال لأن همهم سيكون مرتكزاً على لقمة العيش قبل كل شيء. ومن أجل ضمان النجاح في ذلك أقرنت الحرب الإرهابية الإجرامية النارية في الميدان بحرب إرهابية اقتصادية قادتها الولايات المتحدة بشكل غير مسبوق في التاريخ ونفذتها مطمئنة الى ان التناغم بين الحربين النار والاقتصاد سيوفر لها ما تبتغيه من استمرار السيطرة وسقوط المقاومة وتفكيك جبهتها ومحاورها.

لكن نتائج المواجهة لم تكن كما تشتهي اميركا ومعسكرها، بل افضت الحرب الإرهابية والعدوانية في الأسابيع الأخيرة الى خيبة للآمال الأميركية وأسقطت الأوهام الخليجية وشكلت فضيحة لكامل معسكر العدوان الأميركي بعد أن ارتسم من اليمن و​السعودية​ و​إيران​ فسورية ولبنان مشهد يؤكد:

– العجز عن إسقاط سورية، وتمكن الحكومة السورية من المحافظة على وجودها وعلى الكيان السياسي للدولة، ثم نجاحها في استعادة معظم ما كانت فقدت السيطرة عليه، ثم ترسيخ فكرة استحالة وصول معسكر العدوان عليها استحالة تحقيقه أي من اهداف العدوان عليها.

– تقييد إسرائيل بمعادلة ردع استراتيجي صارمة، وإلزامها باحترام قواعد الاشتباك التي تحمي لبنان ومقاومته وتعزيز تلك القواعد بقاعدة إضافية تتصل بالحماية الجوية.

– عجز السعودية وكامل معسكر العدوان على اليمن والمتشكل تحت وسم التحالف العربي ، عجزهم عن تحقيق أهداف العدوان ثم اضطرار هذا المعسكر وخاصة السعودية الى التحول الى الدفاع في مواطن بالغة الأهمية ولم تكن ضربة أرامكو – بقيق بمسيرات وأسلحة يمنية الا بداية لعهد جديد لم يظهر منه بعد أكثر من رأس جبل الجليد.

– العجز عن شنّ حرب على إيران ـ وعدم القدرة على تكرار ما حصل سابقاً على يد اميركا في كل من افغانستان والعراق وليبيا، وظهور إيران بمظهر ذات القوة المنيعة الجانب القادرة بذاتها ومع حلفائها على توجيه أبلغ الصفعات لمعسكر العدوان. ومن المهم هنا التذكير بالقواعد العسكرية الـ 54 الأميركية المنتشرة في الشرق الأوسط حيث تحول من فيها من الجنود الـ 65000 من قوة لفرض السيطرة على المنطقة والحاقها بالقرار الأميركي، الى رهائن تحت قبضة النار الإيرانية والمقاومة، وإن مجرد التفكير الأميركي بسلامة هؤلاء يحمل أميركا وحلفاءها على الاحجام عن شن حرب، والانتقال من حال القوة القادرة على تنفيذ الإرادة الأميركية الى حال القوة العاجزة عن إنفاذ مشيئة اميركا واتباعها في الخليج. وهنا كانت الخيبة السعودية فبعد الظن بأن أميركا ستعمل شرطياً في الخليج لصالحهم لمسوا أن اعتقادهم وهم أكيد.

وأكد الرئيس الفرنسي ماكرون منذ ثلاثة اسابيع على هذا بعبارة جاء فيها يجب ان يقر الغرب بأن عهد هيمنته على الشرق بدأ بالأفول . كما أعلنت أميركا بعد ضربة بقيق من أن على السعودية ان تحمي نفسها وان اميركا تقدم لها الدعم فقط و لن يكون الجيش الأميركي جيش مرتزقة يحارب من اجل السعودية .

هذا المشهد يؤكد، بان الحرب والقوة التي يتكئ عليها الغرب للسيطرة على المنطقة استنفدت وظيفتها ولم تعد في الوضع الذي يحقق فيه الغرب أهدافه. اما الحرب الاقتصادية فقد بدأت تعطي نتائج عكسية، حيث بدا الباحثون والخبراء يتحدثون بثقة عن تراجع الدولار او انهياره وقرب أفوله. يحدث ذلك بعد ان صمدت الدول والكيانات التي استهدفتها تلك الحرب، ثم بعد ان بدأت تتحول الى نظام مالي وتجاري واقتصادي بديل، ما يؤشر الى بدا بانهيار إمبراطورية اميركا المالية.

و بالمحصلة نؤكد بأن فشل الحربين الإرهابية القتالية والاقتصادية او عجزهما على الأقل عن حماية السيطرة الأجنبية، لن يكون في تداعياته محصوراً في مكان او محل او إقليم، بل إن هذا الفشل سيتوسّع بتداعياته لينسحب على العلاقات الدولية برمتها. وسيجد الباحثون كم كان ماكرون دقيقاً وصائباً عندما نعى الهيمنة الغربية على الشرق الأوسط وأن الطموح الأميركي ببناء شرق اوسط أميركي بات حلماً مستحيلاً حيث يتقدم مشروع شرق أوسط لأهله ما يفرض على أمم الشرق الأوسط الرئيسية الثلاث العرب والترك والفرس الدخول في حوار جدي لإقامة هذا الشرق المتحرر المستقل وسيد نفسه..