لا يبدو ما حصل في الجلسة التشريعية بين رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ وعددٍ من النواب، معظمهم من تكتل "لبنان القوي"، عابراً، ولا يمكن النظر إليه كأنّه "غيمة صيف" ومرّت.

فأن ينسحب الحريري من الجلسة غاضباً بعد مداخلات لنواب "لبنان القوي"، على خلفية سحبه مشاريع اعتمادات خاصة بمنطقة جبل لبنان، وأن يُثار سجال الصلاحيّات مجدّداً، هذه المرّة من بوابة مجلس النواب، وأن يعود الحريري إلى المجلس نتيجة "وساطات"، لأمرٌ يستحقّ البحث والتدقيق.

قد لا يكون الأمر بمثابة "تهديد" للتسوية الرئاسيّة التي مرّت سابقاً بما هو أقسى وأصعب، وثبُت تمسّك أطرافها بها مهما كان الثمن، إلا أنّه يؤشّر بشكلٍ واضحٍ، إلى أنّ الحريري ليس مرتاحاً، بل إنّ ردّة فعله فضحت "غضباً" كان مستوراً، معطوفاً على "امتعاض" من الأداء السياسي العام.

وإذا كان البعض ربط موقف الحريري بزيارته "الباريسيّة" الأخيرة، وعودته منها خالي الوفاض، وشعوره بأنّ أحداً لا يسانده كما يجب لمواجهة الضغوط والقيود الخارجية، أقلّه للإفراج عن مقرّرات مؤتمر "سيدر" التي تكاد تضيع، ثمّة من يرى في الأمر أبعاداً أكبر، تمتدّ من الاقتصاد إلى السياسة وما هو أبعد منهما...

كيف اتّحدوا؟!

من حيث لم يحتسب ولم يتوقّع أحد، جمعت صورةٌ واحدةٌ في مجلس النواب رئيس حزب "الكتائب" ​سامي الجميل​، ورئيس لجنة المال والموازنة النائب ​إبراهيم كنعان​ عن تكتل "لبنان القوي"، وعضو كتلة "الجمهورية القوية" النائب ​إدي أبي اللمع​، وآخرين.

هكذا، تحقّقت المعجزة التي فشل المعنيّون بتحقيقها منذ ما قبل الانتخابات النيابية الأخيرة. أما السبب فلم يكن سوى الاعتراض على أداء الحريري في الجلسة التشريعيّة، عقب استرداد الحكومة مشروع قانون فتح اعتماد إضافي في ​الموازنة العامة​ لاستكمال وتنفيذ بعض المشاريع من بينها مشاريع في ​المتن الشمالي​ و​كسروان​.

بالنسبة إلى النواب المعترضين، فإنّ الأمر ليس واقعياً ولا مقبولاً، خصوصاً أنّ سحب هذه المشاريع، بحجّة ​الوضع الاقتصادي​ والمالي والخزينة التي لا تحتمل، استتبِع في مفارقةٍ غير مفهومة برأيهم، بإصرارٍ على تمرير مشروعٍ يتعلق بتوفير المياه لأغراض الشرب والري في منطقة الضنّية. ويشير هؤلاء إلى أنّ غير المنطقيّ في استرداد الحكومة لهذه المشاريع يكمن في أنّها تأتي أصلاً استكمالاً لمشاريع سبق أن دُشّنت، ما يعني أنّ العمل بها كان قد بدأ، وبالتالي فمن غير الجائز توقيفها اليوم، وترك الطرقات في مهبّ الريح.

وإذا كان الحريري "امتعض" من تبلور "جبهة مسيحيّة" في وجهه، ما أوحى وكأنّه يستهدف مناطق ذات صبغة طائفيّة ومذهبيّة محدّدة، في حين أنه يصرّ على تنفيذ مشاريع مشابهة في المناطق التي يتّكئ عليها خزّانه الشعبي، فإنّ المعترضين يرفضون أصلاً الحديث عن "جبهة"، ويعتبرون أنّ سحب المشاريع هو الذي وحّدهم، ولا شيء غير ذلك، ويذهبون إلى دحض الحُجَج المالية، على اعتبار أنّ تأخير المشاريع هو الذي سيكبّد الخزينة خسائر مضاعفة بالنظر إلى البنود الجزائيّة مع المتعهّدين، وهو ما تحدّث عنه النائب كنعان صراحةً.

البلد ينهار؟!

هي "المحاصصة" إذاً، أقلّه كما رآها الحريري، ودفعته إلى تسجيل اعتراضه عبر الانسحاب من الجلسة التشريعيّة، ليشتبك نوّاب كتلته مع نواب "لبنان القوّي" على الصلاحيّات، في استنساخٍ لسجالاتٍ سابقةٍ دارت حول الموضوع نفسه خلال مرحلة تأليف الحكومة، وما قبلها، وما بعدها، كان الحريري نفسه يقلّل من وطأتها بشكلٍ دائم.

بيد أنّ "قطبة مخفيّة" كان طيفها حاضراً في الجلسة التشريعية، وأدّى إلى "تضخيم" السجال الذي حصل، وصولاً إلى انسحاب رئيس الحكومة، الذي ذهب البعض إلى حدّ اعتباره "استعراضياً" في مكانٍ ما. وتكمن هذه القطبة، بحسب ما يرى بعض المتابعين، في "امتعاض" الحريري من أداء من يفترض أن يكونوا "السَّنَد" له في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد، والتي تكاد تودي بها نحو المجهول.

ولعلّ الحريري الذي يُقال إنّه سمع كلاماً قاسياً في زيارته الأخيرة إلى العاصمة الفرنسية، حيث وصلت الأصداء "السلبيّة" لتقرير الموفد الرئاسي المكلف متابعة مقرّرات مؤتمر "سيدر" ​بيار دوكان​، شعر أنّ هناك في الداخل من "يخنقه" أكثر، بدل أن "يتضامن" معه في مواجهة الضغوط الخارجية التي تكبّله وتقيّد حكومته، في حين تبقى ​القروض​ الميسّرة التي حصل عليها لبنان في مؤتمر "سيدر" الذي خُصّص للنهوض الاقتصادي في لبنان مجمّدة حتى إشعارٍ آخر، إشعارٍ يتطلب الانطلاق بورشة الإصلاح، بعيداً عن سياسة المحاصصة المناطقية والطائفية التي تأخذ مداها.

ولا يبدو أنّ "امتعاض" الحريري يقتصر على أداء "حلفائه المفترضين" اقتصادياً، من دون مراعاتهم لوضع البلاد شبه المُنهار، بل يمتدّ ليصل إلى السياسة، حيث يصرّ البعض على "إحراجه" أمام أصدقائه وحلفائه. ومن هذا المنطلق، لم تنزل تصريحات وزير الخارجية ​جبران باسيل​ الأخيرة مثلاً، برداً وسلاماً عليه، ففي وقتٍ كان يناقش مع السعوديين مساعدةً ماليّة جديدة للبنان، كان باسيل يرفع الصوت برفض إدانة الاعتداءات التي طالت منشآت شركة "أرامكو" السعودية، متخطياً حملة استنكاراتٍ عابرة للقارات على الهجوم. وعلى المنوال نفسه، كان "​حزب الله​" الذي يستفيد من الغطاء الذي توفره له ​حكومة الحريري​، يتوسّع في إعلان التضامن مع ​إيران​ في أيّ مواجهة، وصولاً إلى تهديد بعض ​دول الخليج​ بأنّ الحريق سيصل إليها عاجلاً أم آجلاً.

حان وقت التغيير!

حان وقت التغيير. قد تكون هذه الرسالة الأساسيّة التي يريد الحريري إيصالها للمقرّبين قبل البعيدين.

حان وقت التغيير، ليس بالمعنى الذي تروّج له بعض مكوّنات حكومته، ممّن يدعون إلى استقالته، كما فعل نائب رئيس الحكومة غسان حاصباني مثلاً، أو كما تفعل قيادة "القوات اللبنانية"، في مفارقةٍ لافتةٍ، توحي وكأنّ الحكومة تدعو إلى إقالة نفسها بنفسها.

ما يريده الحريري هو تغييرٌ بالروحية والعقليّة، تغييرٌ يستند إلى ظروف البلد التي ليست في أفضل الأحوال، ولو كابر البعض في محاولةٍ لتخطّي المأزق، والحديث عن إنجازاتٍ تكاد تكون وهمية، أو شكليّة إن وُجِدت، تغييرٌ لا بدّ منه لتفادي سيناريو الانهيار، الذي يخشى كثيرون أنه بات أقرب ممّا يتصوّر الجميع...