عندما بدأ وفد مُكلّف من جانب رئيس مجلس النوّاب ​نبيه برّي​ جولات إستطلاعيّة على ​الكتل النيابية​ منذ بضعة أشهر، بهدف عرض مشروع قانون جديد للإنتخابات النيابيّة، ظنّ الكثيرون أنّ الأمر هو عبارة عن مُجرّد رفع عتب إعلامي، أمام المُطالبات الدائمة بضرورة عدم ترك مسألة البحث ب​قانون الإنتخابات​ إلى اللحظات الأخيرة. لكن مع بدء اللجان النيابيّة المُشتركة الأربعاء الماضي مُناقشة إقتراح القانون الذي تقدّمت به كتلة "التحرير والتنمية" لتعديل قانون الإنتخاب الحالي، وذلك من دون المُرور ب​لجنة الإدارة والعدل​ كما هو مُفترض، تبيّن للجميع أنّ المسألة ليست مُناورة بل عبارة عن مُحاولة جدّية للتخلّص من القانون الذي إعتمد في دورة العام 2018 الإنتخابيّة. فما هي الخلفيّات، وما هو موقف مُختلف القوى من القانون الجديد المُقترح، ولماذا سارعت القوى والأحزاب المسيحيّة الرئيسة إلى الإعتراض ورفض ما يُطرح؟.

من بين التعديلات المُقترحة والتي لا يُمكن أن تمرّ من دون تعديل دُستوري، خفض سنّ الإقتراع إلى سنّ 18 سنة، وهذه المسألة تؤدّي تلقائيًا إلى زيادة عدد الناخبين المُسلمين بحسب الإحصاءات المُتوفّرة، لكنّها تُعتبر من المسائل القابلة للبحث والنقاش من قبل الأحزاب والقوى المسيحيّة، شأنها شأن مسألة تحديد "كوتا" نسائيّة مُلزمة ضُمن اللوائح الإنتخابيّة، علمًا أنّ بعض الجمعيّات المُدافعة عن حُقوق المرأة ترفض هذا الأمر وتعتبر أن فرص المرأة بالوصول إلى ​المجلس النيابي​ يجب أن تكون مُوازية لفرص الرجل، وليس مُحدّدة برقم–حتى لو كان هذا الرقم مضمونًا ومكفولاً بالقانون. وبالنسبة إلى مسألة زيادة ستة نوّاب يُمثّلون الجاليات اللبنانيّة في بلاد الإغتراب، فقد جرى في الماضي القريب التوافق شفهيًا على إعتماد هذا الأمر خلال الدورة المُقبلة من الإنتخابات النيابيّة المُفترض تنظيمها في العام 2022، ولا يُشكّل بالتالي هذا الإقتراح مسألة خلافيّة.

لكنّ ما أثار قلق الأحزاب والقوى المسيحيّة يتمثّل في الطُروحات الداعية إلى إعتماد لبنان دائرة إنتخابيّة واحدة، بحيث تُصبح الكلمة الفصل لصالح الأغلبيّة العدديّة، حتى لو جرت مُحاولات لتغليف المسألة بالإقتراع النسبي. فإذا كان الناخب المسيحي لا يزال يملك كلمة فاعلة في بعض الأقضية ذات الأغلبيّة المسيحيّة الكليّة أو الجزئيّة، فإنّ إعتماد لبنان دائرة إنتخابية واحدة يعني بصريح العبارة أنّ المسيحيّين الذين قد لا يُشكّلون أكثر من 35 % من إجمالي الناخبين اللبنانيّين في العام 2022، سيفقدون هذا الإمتياز، لتُصبح الكلمة الفاصلة بالإنتخابات للأغلبيّة العددية المُسلمة على مُستوى لبنان. أكثر من ذلك، إنّ مُحاولات تمرير قانون إنتخابي جديد، يُطيح بالصوت التفضيلي، ويعتمد الترتيب التسلسلي المُسبق للوائح، يعني عمليًا السعي للإستفادة من التشرذم المسيحي لإضعاف كل من "التيّار" و"القوات" بشكل خاص.

إشارة إلى أنّه ليس صحيحًا أنّ الإستغناء عن "الصوت التفضيلي" يعني التخلّص من الخلافات التي كانت تُلاحق المرشّحين على اللوائح نفسها في القانون الحالي، لأنّ إعلان الفوز وفق الترتيب التسلسلي من الإسم الأعلى في اللائحة نُزولاً، تبعًا لعدد النوّاب الذي ستفوز به كل لائحة، يعني أنّ المُرشّحين سيختلفون قبل إنطلاق الإنتخابات، لأنّ كل المُرشّحين سيسعون إلى التربّع على رأس اللائحة لضمان فرصهم في الفوز! وإذا كان صحيحًا أنّ بعض الدول المُتقدّمة تعتمد هذا الأسلوب في إنتخاباتها التشريعيّة، فإنّ الأصحّ أنّ الإنتخابات فيها تجري وفق التنافس الحزبي، حيث يُصوّت الناخبون لبرامج حزبيّة من دون أن يهتمّوا بهوية الفائزين، بينما الواقع الحالي في لبنان يبتعد كل البُعد عن هذا الأمر، ويحتاج لسنوات طويلة من التأهيل والتحضير للوُصول إلى التنافس على البرامج الحزبيّة. أكثر من ذلك، بسبب التقسيم الطائفي والمذهبي في لبنان، قد يخسر رأس إحدى اللوائح الإنتخابيّة لأنّه من مذهب معيّن، لأنّ رأس اللائحة المُنافسة الفائزة إستحوذ على المقعد المُخصّص لهذا المذهب. وهذه الثغرة ستتيح أيضًا إمكان التآمر على شخصيّات مرموقة، من خلال ترتيب أسماء المُرشّحين في اللوائح بشكل يرفع أو يُخفّض فرص فوز مُنافسين على لوائح مُقابلة!.

وبالنسبة إلى تموضع القوى والأحزاب من الطروحات الإنتخابيّة التي وُضعت على نار حامية على الرغم من الفترة الزمنيّة الطويلة الفاصلة عن موعد الإنتخابات النيابيّة المُقبلة، فإنّ "الثنائي الشيعي" يضغط بقُوّة لتغيير القانون الحالي–ولوّ أنّ "حركة أمل" هي في الواجهة اليوم، في ظلّ إنكفاء ظاهري يعتمده "حزب الله" لأسباب سياسيّة تكتيّة. والجهات التي تؤيّد تغيير القانون الحالي تشمل مُختلف أحزاب وقوى وشخصيّات "8 آذار"، باعتبار أنّ إعتماد لبنان دائرة واحدة يعني أنّ "حزب الله" الذي يقود هذا المُحور داخليًا، سيقوم بتوزيع الحُصص على مُختلف الأحزاب والقوى المُؤيّدة له بشكل عادل ومدروس، في حين سيسود الإرباك والضياع والإنقسام باقي القوى الموجودة على الساحة اللبنانيّة، بحسب أكثر من تجربة إنتخابيّة سابقة. ومن بين القوى التي تؤيّد تغيير القانون الحالي، لكنّها لا تنضوي ضُمن المُحور المؤيّد لخطّ "المُقاومة والمُمانعة"، كلّ من "الحزب التقدمي الإشتراكي" و"تيّار المُستقبل" إذ يريدان التخلّص من القانون الموجود الذي أسفر عن تراجع حصصهما، لكنّهما يدرسان خطواتهما بتمهّل، لإحتساب نتائج أي قانون جديد مَطروح، ومدى إمكان أن يحفظ تمثيلهما بشكل أكبر من القانون الحالي من عدمه.

في المُقابل، توحّدت أغلبيّة القوى المسيحيّة خلف رفض أي طرح يتحدّث عن إعتماد لبنان دائرة إنتخابيّة واحدة، أو يُلغي الصوت التفضيلي، لأنّ في ذلك مُحاولة مَكشوفة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لجهة تقليص عدد النوّاب الذي يستطيع الناخب المسيحي إيصالهم إلى الندوة البرلمانيّة بأصواته. وبالتالي تجاوز كل من "التيّار الوطني الحُرّ" وحزب "القوات اللبنانيّة" وعدد كبير من باقي القوى والشخصيّات المسيحيّة، الخلافات في ما بينهم، وتوحّدوا حول رفض إعادة إخضاع المسيحيّين من جديد، تحت عناوين فضفاضة عن الإنصهار الوطني والوحدة وما إلى هناك من شعارات لا يتم تطبيق شيء منها على أرض الواقع، فيما الهدف الفعلي منها هو العودة إلى إنتخاب أغلبيّة النوّاب المسيحيّين من قبل الأحزاب والقوى الإسلاميّة بفعل الفارق العددي لصالح هذه الأخيرة، أي تمامًا كما كان يحصل في القوانين الإنتخابية التي فُرضت على اللبنانيّين بين العام 1990 والعام 2005، ولكن تحت شعار النسبية البرّاق هذه المرّة! وهذا ما ستُواجهه القوى والأحزاب المسيحيّة بشراسة، ومطلبها زيادة عدد النوّاب الذين يصلون بأصوات ناخبيهم ضُمن بيئتهم عن العدد الذي وفّره القانون الإنتخابي الحالي، وليس إعادة لغّة الفرض والإخضاع إلى القاموس السياسي اللبناني من جديد!.