فيما كان كثيرون منهمكين بـ"فحص" حجم الوفد الذي رافق رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي قيل إنّ "تضخيماً" أصابه إعلامياً في محاولةٍ للتصويب عليه في زمن "التقشّف" المُعلَن، كان همّ آخرين منصبّاً على مضمون كلمة لبنان، والتي حملت بين طيّاتها الكثير من الرسائل والدلالات.

وإذا كان تكرار عون مواقفه الأخيرة حول حقّ لبنان في الدفاع عن نفسه بكلّ الوسائل المُتاحة، على خلفية الاعتداء الإسرائيلي الأخير الذي استهدف الضاحية الجنوبية لبيروت، حمل أهمية مضاعفة لكونه خرج من أعلى منبر دوليّ، فإنّ كثيرين توقفوا عند نقطةٍ ثانيةٍ من الخطاب، تمثّلت في تلويح عون المباشر بالتفاوض مع الحكومة السورية لمعالجة ملفّ النزوح السوري المتفاقم.

ومع أنّها ليست المرّة الأولى التي يبدي فيها عون صراحةً رغبته في التنسيق مع النظام السوريّ لحلّ هذه المعضلة، فإنّ علامات استفهام طُرِحت حول مغزى الرسائل التي أراد عون إيصالها إلى المجتمع الدولي من عقر داره، وحول ردود الفعل التي قد يلقاها في الداخل اللبناني، خصوصاً من خصوم النظام السوري ورافضي "التطبيع" معه...

لعبة دولية!

بالنسبة إلى الفريق المؤيّد لرئيس الجمهورية، فإنّ كلمة الأخير أمام اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لم تحمل جديداً، خصوصاً في ما يتعلق بملفّ النزوح، بل أتت استكمالاً للحراك الذي ينتهجه الرئيس عون منذ وصوله إلى قصر بعبدا، وإصراره على ضرورة إنهاء معضلة النزوح السوري بأيّ ثمن، باعتبار أنّها باتت تكلّف لبنان أكثر بكثير من قدرته وطاقته على الاستيعاب.

وخير دليلٍ على ذلك، بحسب ما يقول هؤلاء، أنّ كلام الرئيس عون في نيويورك لم يكن الأول من نوعه، بل إنّه يكاد يكون "الثابتة الوحيدة" في كلّ خطاباته منذ وصوله إلى سُدّة الرئاسة، وهو يحرص على تكراره أصلاً عند استقباله لكلّ الموفدين الدوليين الذين يزورون لبنان، خصوصاً الأميركيين والأوروبيين منهم، وبمُعزَلٍ عن طبيعة المهمّة التي يؤدّونها في لبنان، والتي تكون في الكثير من الأحيان غير مرتبطة بملفّ النازحين من الأصل.

بيد أنّ الجديد الذي برز في خطاب عون تمثّل في تلويحه بالتنسيق مع الحكومة السورية، قافزاً بذلك برأي البعض فوق الإجماع اللبناني المفقود على هذه النقطة، التي سبق أن وتّرت العلاقات داخل مجلس الوزراء، معطوفاً على اتهام بعض الدول الفاعلة بعرقلة عودة النازحين، وبالتالي تعمّد إطالة أمد الأزمة، بسبب الخصومة مع النظام السوري، وبانتظار حلّ سياسيّ قد لا يأتي في المدى المنظور، علماً أنّ مقوّماته لا تبدو ناضجة حتى الآن، وإن راهن كثيرون على بعض المؤشرات التي يعتبرونها "مشجّعة"، كتشكيل اللجنة الدستورية أخيراً.

ولعلّ الرسالة التي أراد عون إيصالها برزت خصوصاً عبر حديثه الواضح عن "لعبة دولية" تحوّل النازحون بموجبها إلى رهائن للمقايضة بهم عند فرض التسويات والحلول، وهو ما حذر من أنّه قد يؤدّي إلى استنساخ التجربة الفلسطينية في لبنان، التي لم تنتهِ بعد عقودٍ من الزمن، علماً أنّه وضع التنسيق مع الحكومة السورية كردّة فعل على التقاعس الدوليّ في مقاربة هذه الأزمة، وكأنّه يخيّر المجتمع الدولي بين تغيير النهج، أو ترك لبنان يحلّ شؤونه بنفسه، وفق ما يجده مناسباً.

السجال مُستبعَد...

في المبدأ، توحي المعطيات بأنّ مواقف رئيس الجمهورية في الملفّ السوري من شأنها أن تؤدّي إلى أزمةٍ جديدةٍ في الداخل اللبناني، باعتبار أنّها ليست محلّ إجماع، خصوصاً أنّ رئيس الحكومة سعد الحريري سبق أن أدلى بتصريحاتٍ مناقضةٍ في أكثر من مرحلة، ولا سيما في مرحلة ما قبل تشكيل حكومته، حين جزم بأنّه لن يزور سوريا، ولن يطبّع العلاقات مع نظام الرئيس بشار الأسد، أياً كانت الظروف، وذلك رداً على مقولة إنّ الحكومة ستعيد العلاقات مع سوريا إلى سابق عهدها.

لم يتغيّر شيء في المواقف منذ ذلك الحين. لا يزال الحريري في حالة "عداء" مع النظام السوري الحالي، بدليل أنّه يتفادى أيّ لقاء أو مصافحة، ولو عرضيّة، مع السفير السوري علي عبد الكريم علي، وهو استثناه انطلاقاً من ذلك من لقاءٍ عقده مؤخراً مع عددٍ من السفراء المعتمدين لدى لبنان، تماماً كما يتفادى مصافحته خلال تقبّل التهاني بعيد الاستقلال في قصر بعبدا، في استعراضٍ بات سنوياً. وخلف الحريري، لا يزال عددٌ من الأفرقاء الممثَّلين في الحكومة، وفي مقدّمهم "الحزب التقدمي الاشتراكي" و"القوات اللبنانية"، رافضين لأيّ خطوةٍ "تطبيعيّة" مع الحكومة السورية، وهم يصرّون على أنّ الوزراء الذين يذهبون إلى سوريا رغم كلّ شيء، يقومون بذلك من تلقاء ذاتهم، لا بتكليفٍ من الحكومة، ما يعطي زياراتهم طابعاً "شخصياً"، لا رسمياً كما يعلنون.

لكن، ورغم كلّ هذه المُعطيات، يبقى من المستبعَد أن يؤدي هذا الملفّ إلى سجالٍ متجدّد بين هؤلاء وفريق رئيس الجمهورية، لعدّة أسباب، أولها أنّ الملفّ الاقتصادي والمعيشي يطغى اليوم على ما عداه، وأنّ الحريري يوليه كلّ الاهتمام، وهو الذي يحاذر الحديث في السياسة، لا يرغب في افتعال سجالاتٍ جديدةٍ لا طائل منها في الوقت الحاليّ، في حين أنّ العين الدولية لا تزال مسلّطة على لبنان، الذي ينتظر الإفراج عن مقرّرات مؤتمر "سيدر" لعلّه يتمكّن في تفادي سيناريو الانهيار الذي يتخبّط به، والذي يبدو أنّه بات أقرب بكثير ممّا يتوقّع كثيرون.

أما السبب الثاني، ولعلّه الأهمّ، فيكمن في أنّ خصوم النظام السوري في لبنان لا يمانعون التوصّل إلى حلّ، وهم سبق أن وافقوا على آلية تنسيق تمرّ من خلال المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، إلا أنّ نقطة الخلاف مع فريق رئيس الجمهورية تكمن في اعتقاد هؤلاء بأنّ النظام أصلاً لا يريد عودة النازحين، وهو بعكس ما يُقال، لا يسهّل هذه العودة ولا يؤمّن لها المقوّمات المطلوبة. أما إذا نجح عون في ختم هذه المعضلة، من خلال بوابة إبراهيم أو غيره، فإنّ أحداً لن يعارض ذلك من أجل المعارضة، بشرطٍ وحيدٍ يتمثّل في وجوب مراعاة المعايير الإنسانية والاجتماعية والأمنية، حتى لا تتحوّل العودة إلى "جحيم" في مكانٍ ما.

التباس في غير مكانه؟!

حظيت زيارة رئيس الجمهورية إلى نيويورك بالكثير من الاهتمام. في البدء، أثار حجم الوفد الرئاسيّ الالتباس، ما طرح علامات استفهامٍ حول الجدوى والمغزى، وكانت الحملة على تكليف الخزينة مصاريف باهظة بلا طائل.

ومن ثمّ، جاء اللقاء السريع مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، والذي تزامن مع تسريب صورةٍ للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله مع المرشد الأعلى للثورة في إيران السيد علي خامنئي وقائد "فيلق القدس" قاسم سليماني، ليُطلق حملة أخرى شكّل "النأي بالنفس" محورها الأساس.

وبين هذا وذاك، بقي مضمون الكلمة التي ألقاها عون يغرّد في سربٍ آخر، فهل يشكّل خريطة طريق للمرحلة المقبلة، أم يُضاف إلى الحراك الخاص بملفّ النازحين، والذي يبقى بلا بركة، طالما أنّ المقاربة الدولية له لا تزال تراوح مكانها؟!.