بين التصاريح المُتشائمة والتي تتحدّث عن قُرب الإنهيار الإقتصادي والمالي في ​لبنان​، وتلك المُتفائلة والتي تتحدّث عن توفّر القُدرة على السيطرة على ​الوضع المالي​ لفترة زمنيّة طويلة، على الرغم من كل الصُعوبات والضُغوط، ضاع اللبنانيّون، وصاروا عرضة للإشاعات التي تأخذهم يمينًا ويسارًا في لحظات! فأين الحقيقة ممّا يحدث؟.

لا يختلف إثنان أنّ الوضع الإقتصادي الحالي في لبنان غير سليم على الإطلاق، وهو بلغ مرحلة مُتقدّمة من التراجع بحيث أثّر سلبًا على الوضع المالي. وهذه الحقيقة مَلموسة وواقعيّة، وهي تعود إلى جملة من الأسباب، أبرزها:

أوّلاً: تراكم دُيون لبنان، والغرق في متاهة تسديد فوائد الدين، وإستمرار العجز الكبير في مؤسّسة ​كهرباء لبنان​ مع ما يُرتبّه هذا الأمر من هدر مفتوح على الخزينة.

ثانيًا: إقرار ​سلسلة الرتب والرواتب​ بدون دراسات علميّة وإقتصاديّة(1)، لمنافع سياسيّة ضيّقة عشيّة الإنتخابات النيابيّة، والتسبب بالتالي بنقص مالي كبير في خزينة الدولة، وبتفاوت كبير وغير عادل بين رواتب القطاعين العام والخاص.

ثالثًا: تأخّر وُصول القروض التي مُنحت للبنان خلال "مُؤتمر سيدر"، وربطها بإصلاحات بنوية لم تحصل بعد.

رابعًا: وقف قروض الإسكان، الأمر الذي إنعكس سلبًا على العديد من القطاعات، وزاد من الركود الإقتصادي الداخلي بشكل كبير.

خامسًا: إعتماد سياسة هروب إلى الأمام عبر رفع الفوائد من قبل ​المصارف​، بهدف الإحتفاظ بالودائع المالية، الأمر الذي ترافق مع رفع فوائد القروض المصرفيّة، فهرب المُستثمرون وتجمّدت الدورة الإقتصاديّة بشكل كامل.

سادسًا: توريط لبنان في الصراع الإقليمي، وقيام السُلطات الأميركيّة بفرض عُقوبات على مصرف وشركات ومؤسّسات ورجال أعمالفي لبنان، الأمر الذي أسفر عن ضربة معنويّة كبيرة للمُستثمرين، وعن بلبلة إضافية في الأسواق الماليّة.

سابعًا: قيام عدد من المُودعين الكبار بتحويل أموالهم من لبنان إلى الخارج، بالتزامن مع قيام بعض المودعين الصغار الخائفين على حساباتهم الماليّة بسحب أموالهم من المصارف وبتخزينها في المنازل.

ثامنًا: إستمرار سحب الأموال بالعملة الصعبة من لبنان إلى الخارج، إنّ من قبل العُمّال السوريّين الذين يتحركون ذهابًا وإيابًا بين لبنان و​سوريا​، أم الذين تعيش عائلاتهم في سوريا، أو من قبل باقي العُمّال الأجانب في لبنان من الجنسيّات المصريّة والإثيوبية والبنغلاديشية والفيليبينيّة وغيرها.

تاسعًا: إرتفاع أعداد اللبنانيّين الذين يُسافرون دوريًا في رحلات إستجمام، ويخرجون معهم بالتالي مبالغ كبيرة من العملات الصعبة، ب​الدولار​ أو اليورو.

عاشرًا: إستغلال بعض التُجار والصيارفة حال البلبلة الماليّة السائدة، لتحقيق مكاسب ماليّة سريعة، مُستفيدين من تأثّر اللبنانيّين السريع بالإشاعات، وحُصول عمليّات تهريب للدولار إلى سوريا وسط البلبلة السائدة.

وإنطلاقًا من كل ما سبق، وإضافة إلى غيرها من الأسباب التي لا يُمكن تعدادها في مقال واحد، لا شكّ أنّ المشاكل المُتراكمة وتلك التي برزت أخيرًا، أدّت إلى ما يحدث حاليًا. لكنّ هذا الواقع لا يعني أبدًا أنّنا بلغنا مرحلة الإفلاس والإنهيار التام. والوقائع التي تؤكّد هذا الأمر مُتعدّدة، وأبرزها:

أوّلاً: يُواصل لبنان تسديد مُستحقاته الدَوليّة وديونه في مواعيدها، وهو يملك القُدرة على مُواصلة ذلك لفترة زمنيّة لا بأس بها، علمًا أنّ هذه المُستحقّات تبلغ نحو 3 مليارات دولار أميركي سنويًا.إشارة أيضًا إلى أنّ دين الدولة اللبنانيّة يُصنّف في خانة الديون العامة المُستقرّة على الرغم من إرتفاعه، كونه يعود بجزء كبير منه إلى مصادر داخليّة.

ثانيًا: يملك المصرف المركزي إحتياطًا ماليًا كبيرًا بالعملات الصعبة، على الرغم من تراجعه قليلاً عن السنوات الماضية، وهو يبلغ حاليًانحو 36 مليار دولار أميركي، ما يعني إستمرار القُدرة على التدخّل في سوق القطع متى ما أراد المصرف ذلك، وخاصة عند الخضّات الأمنيّة أو السياسيّة الكُبرى.

ثالثًا: إرتفاع قيمة موجودات ​الذهب​ لدى المصرف المركزي والتي تبلغ 286 طُنًا، وبالتالي يُمكن في أي وقت تسييل الذهب كإجراء يُمثّل الخرطوشة الأخيرة لتأمين الأموال النقديّة بقيمة تزيد على 12 مليار دولار أميركي، علمًا أنّ الأمور لم تبلغ هذه المرحلة إطلاقًا.

رابعًا: إرتفاع الودائع بالدولار إلى ما نسبته 71,5 % من إجمالي كل ودائع اللبنانيّين في المصارف، وهي أعلى نسبة منذ 10 سنوات حتى اليوم. وهذا الأمر يعني في المفهوم الإقتصادي، عدم قُدرة المُودعين بالليرة اللبنانيّة على قلب مَوازين قيمة صرف العملة حاليًا، حتى لوّ قرّروا جميعهم شراء الدولار دُفعة واحدة، وهو ما لا يُمكن أن يحصل عمليًا، ولن يسمح به ​مصرف لبنان​ أصلاً.

خامسًا: إنّ المصرف المركزي تعمّد عدم ضخّ الدُولارات بكثرة في الأسواق في المرحلة الأخيرة، ليس لأنّه لا يملك القُدرة على ذلك، بل بهدف عدم إستهلاك إحتياطه بالعملات الأجنبيّة في مُضارباتمحليّة ثانويّة، وبهدف ترك الحركة الماليّة تأخذ مداها بنسبة محدودة تبقى تحت السيطرة، على أن يقوم بالتدخّل بقُوّة في مرحلة لاحقة، تكون مناسبة له لتحقيق مكاسب مالية بسبب فارق العُملة المُسجّل حاليًا.

في الخُلاصة، القراءة الموضوعيّة تؤكّد وُجود صُعوبات، لكنّ الوقائع المُتوفّرةتنفي كليًا قرب إفلاس لبنان أو إنهياره. لكنّالرأي العام الذي بدأ بالتعبير عن غضبه عبر تظاهرات هنا وقطع طرقات هناك، بحاجة إلى تطمينات، لأنّ الإشاعات كثيرة ومنها ما هو خطير، مثل أنّ قرارًا سريًا إتخذ بتحرير جزئي ومحدود لسعر صرف الدولار، وذلك بهدف خفض قيمة الدين العام وسندات الخزينة من جهة، وتحسين القُدرة على دفع رواتب ​القطاع العام​ بعد تخفيف قيمتها الفعليّة نسبة إلى الدولار!فهل ستتحمّل السُلطة التنفيذيّة مسؤوليّتها، وتُبادر إلى تقديم التطمينات المُنتظرة، وإلى تطويق التظاهرات في مهدها قبل تحوّلها إلى أعمال شغب تُحرّكها أجهزة إستخبارات خارجيّة، أم يبقى اللبنانيّون عرضة لمخاطر الإشاعات المُدمّرة، في ظلّ تقاذف المسؤوليّات عمّا يحصل؟!

(1) تحسين رواتب المُوظّفين الرسميّين كان يجب أن يتمّ بشكل تدريجي وتصاعدي على مدى خمس سنوات مثلاً، بالتزامن مع زيادات مُشابهة في ​القطاع الخاص​، للحفاظ على توازن الدورة الإقتصادية الداخليّة.