مِن أزمة ​الدولار​ المتفاقمة، إلى الأزمات المتفرّعة منها والممتدّة من ​المحروقات​ إلى النقل و​الاتصالات​ و​المصارف​ وغيرها، مروراً بالمآسي الإنسانية المتنقّلة والعابرة للمناطق والطوائف، لا تبدو أوضاع البلاد هذه الأيام "مبشّرة"، أقلّه من الناحية الاقتصاديّة، بل إنّ أكثر المتفائلين باتوا على وشك الاستسلام ورفع العشرة.

ولكن، إذا كانت الدولة بكامل تركيبتها، تتحمّل مسؤولية في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، مدفوعةً بطبيعة الحال بالضغوط الخارجية القاسية، التي تأخذ تارةً شكل العقوبات التي تطال البلد بأسره، وطوراً شكل القيود التي تكبّل أداء الحكومة، بعنوان الإصلاحات، فإنّ نظرية "المؤامرة" وجدت على ما يبدو موطئ قدمها وسط كلّ ذلك.

ويبدو كلام وزير الخارجية ​جبران باسيل​ قبل أيام الأكثر وضوحاً في هذا السياق، هو الذي تحدّث صراحةً عن "شركاء في الداخل يتآمرون على البلد واقتصاده"، تصريحاتٌ تزامنت مع كلامٍ شبيه، وإن اتّسم بالدبلوماسية، لرئيس الجمهورية ​ميشال عون​، حين أحال سائليه عن الأزمات المستجدّة إلى وزير المال ​علي حسن خليل​ وحاكم مصرف ​لبنان​ ​رياض سلامة​...

"مؤامرة" وأكثر؟!

لا يتردّد الفريق المحسوب على "​التيار الوطني الحر​" والمقرّب من رئيس الجمهورية، في الحديث عن "مؤامرة" منهجيّة مستمرّة على "العهد"، تقف خلف كلّ الأزمات التي يتخبّط بها لبنان، والتي يرى فيها كثيرون "تضخيماً" غير مبرَّر، ولا أساس منطقياً له في الأصل.

ويتوقف المتحدّثون عن "مؤامرة" عند أكثر من مفارقة سُجّلت خلال التحرّكات الاحتجاجيّة التي شهدتها بعض المناطق اللبنانية خلال عطلة نهاية الأسبوع، والتي ذهب خيال البعض إلى حدّ توصيفها بـ"الثورة"، وهي "ثورة" قد تكون مطلوبة بل ضروريّة، شرط ألاّ تقع في فخّ "التسييس" الذي من شأنه أن يدفنها في مهدها.

إلا أنّ التظاهرات الأخيرة وقعت في هذا "الفخّ"، برأي هؤلاء، ليس لأنّ التصويب الأساسيّ فيها كان على "العهد"، مع "تحييد" العديد من القوى السياسية التي شكّلت "ثوابت" في الحكم منذ اتّفاق الطائف حتى اليوم، بل عدم الخجل في رفع أعلامها، وكأنّ بعض المتظاهرين لا يجدون حَرَجاً في التعبير عن انتماءاتهم السياسية، بعكس ما كان الحال في تظاهراتٍ سابقةٍ قادها الحراك المدني خصوصاً في العام 2015، كان شعارها الأوحد "كلن يعني كلن"، منعاً لتبرئة أيّ فريقٍ في الحكم من المسؤولية.

ويكفي برأي المشتكين من "مؤامرة"، أن يكون الكثير من "رموز" هذا الحراك أول الغائبين عن تحرّكات الأحد "المسيّسة"، لطرح علامات الاستفهام حولها، علماً أنّ بعض هؤلاء برّر غيابه صراحةً بالحديث عن "ضياع البوصلة"، خصوصاً أنّ عدداً من المنظمين تسرّعوا في نبذ مقولة "كلن يعني كلن"، مفضّلين التصويب حصراً على "العهد"، ما أوحى وكأنّ التحرّكات جاءت لخدمة أجنداتٍ سياسيّةٍ معيّنةٍ، وفي توقيتٍ لافتٍ عقب مشاركة الرئيس عون في اجتماعات الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، ما دفع البعض لوضعها في خانة "الرد" على مواقف الأخير.

مَن المتآمرون؟!

رغم كلّ الالتباسات التي أحاطت بتحرّكات نهاية الأسبوع الاحتجاجيّة، فإنّ الحديث عن "مؤامرة" خلفها قد لا يكون محبَّذاً ولا شعبياً، خصوصاً أنّ أحداً لا يمكنه نكران أنّها انطلقت من شعور المواطنين بالضيق، بعد تخطّي الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة كلّ الحدود المرسومة، وبالنظر إلى عجز الدولة المتهالكة عن المعالجة، بل فشلها حتى في الحصول على "المسكّنات" التي تقرّرت، على شكل قروض ميسّرة، في مؤتمر "سيدر" الأخير.

من هذا المنطلق، يتفّهم أصحاب وجهة نظر "المؤامرة" الحيثيّات التي قد تدفع كثيرين إلى المشاركة في أيّ تحرّكات احتجاجية، وهو ما عبّرت عنه بعض الصرخات المحقّة التي صدحت بها حناجر الكثير من المواطنين الذين يكادون يصبحون منسيّين، نتيجة الإهمال الذي يواجهونه على أكثر من صعيد. إلا أنّ كلّ ذلك، برأي هؤلاء، يفترض أن يدفع إلى البحث عن حلّ جدّي ومجدٍ، لا إلى رفع الشعارات المزيَّفة والمطالبة بإسقاط عهدٍ، لا يمكن أصلاً تحميله المسؤولية عن فسادٍ جاء نتيجة تراكماتٍ استمرّت لعقودٍ، ولو اتّهمه كثيرون بالانخراط في المنظومة، بدل محاربتها لتغييرها وإصلاحها، انسجاماً مع تعهّداته السابقة.

يرفض هؤلاء تسمية "المتآمرين" الذين قصدهم باسيل بالاسم، وإن كانوا يعتبرون أنّهم معروفون للرأي العام، فهم من يعرقلون عمل الحكومة ويشوّشون عليها، ويضعون العصيّ في دواليب عجلة الإصلاح بعناوين واهية، وهم من يفتعلون الأزمات من دون سابق إنذار، ويروّجون في العَلَن والخفاء لإشاعاتٍ من دون تقديم أدلّة، كما حصل مع البروباغندا التي رسمها كثيرون حول الوفد المرافق لرئيس الجمهورية إلى نيويورك، والمصاريف الباهظة التي تكبّدتها الخزينة، وغير ذلك.

وفي حين يلفت هؤلاء، بلسان الاستهجان، إلى أنّ الدليل الأكبر على وجود "تآمر"، يتمثّل في ذهاب بعض الوزراء في الحكومة إلى تبنّي طلب "إسقاطها"، في إشارة إلى وزراء "القوّات اللبنانيّة"، يرى بعض خصوم "التيّار" في الحكومة وخارجها، أنّ الحديث عن "مؤامرة" هو المضخَّم، تماماً كما أنّ الاستخفاف بالأزمات التي يتخبّط بها البلد، بل "الاستهزاء" بها، يكاد يعبّر عن مقاربة خطيرة للوضع العام. ولعلّ الأخطر، برأي هؤلاء، يكمن في رمي كرة المسؤولية على الآخرين وتقاذفها، كما فعل باسيل في تصريحه المثير للجدل، بدل الانكباب على المعالجة، علماً أنّه إذا كان صحيحاً أنّ "التيار" ليس المسؤول الأوحد عن الأزمات، فإنّه من يتصدّى للمسؤولية اليوم بعنوان "العهد القوي"، وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون مصدر الشكوى ووجهتها، وهو ما كان يفعله أصلاً في العهد السابق، حين كان يصوّب على رئيسٍ، يدرك قبل غيره أنّ لا حول له ولا قوّة...

"مؤامرة جماعيّة"

مع أنّ "نظرية المؤامرة" التي يستخدمها من ينبذها قبل غيره، حين يجد فيها مادة "إثارة" قد تخدمه، باتت خياليّة إلى حدّ بعيد، فإنّ لا مبالغة على الإطلاق في الحديث عن "مؤامرة جماعية" يتعرّض لها البلد.

هي "مؤامرة جماعية" يشترك فيها الجميع من دون استثناء، من دون أيّ مراعاةٍ للبلد واقتصاده، "مؤامرة" يسعى الجميع لاستغلالها في السياسة، عبر التصويب على الخصوم، بدليلٍ أو من دونه، وبنيّاتٍ صافية أو من دونها.

هي "مؤامرة جماعية" يريد أقطاب السلطة الذين تعاقبوا عليها منذ التسعينات، أن يخرجوا منها بـ"صفر خسائر"، وبتكريسٍ للمعادلات إيّاها، معادلاتٌ لن يكون فيها سوى خاسرٌ واحد، هو الشعب الذي يبقى وحده من يئنّ ويتألّم، فيما تتحوّل مصائبه إلى "بازارٍ" وأكثر...