ما خشي الكثير من ال​لبنان​يين حدوثه في تظاهرات الأحد الماضي في بيروت حصل، ولكن هذه المرّة في ​العراق​.

تظاهراتٌ واحتجاجاتٌ بشعاراتٍ ومطالب مُحِقّة، أقلّه من حيث الظاهر وقبل دخول السياسة على خطّها، اكتسبت بقدرة قادر طابعاً عنيفاً ودموياً، ما أدّى إلى خروجها عن السيطرة، وسقوط العشرات بين قتيلٍ وجريح.

من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وجد اللبنانيون أنفسهم معنيّين بما حصل. ما يجمعهم بالعراق لا يختصر بكلماتٍ، من الاقتصاد المُنهار، إلى ​الفساد​ المستشري، مروراً بالمحاصصة والطائفية، ووصولاً إلى الانقسام المذهبي وصراع المَحاوِر.

إن دلّ ذلك على شيء، فعلى أنّ مقوّمات "استنساخ" التجربة العراقية لبنانياً أكثر من متوافرة، أياً كانت حقيقة "الدوافع" التي ولّدت "الانتفاضة" العراقيّة، "انتفاضة" يريدها اللبنانيون "سلميّة" منذ عقودٍ، من دون أن يجرؤوا على إطلاقها...

واقعٌ واحدٌ!

بمُعزَلٍ عن الانقسام السياسيّ الذي بات يتحكّم بكلّ شيء في لبنان، وبعيداً عن "تسييس" مطالب الناس البديهيّة، وتوظيفها في "بازار" محاربة "العهد" تارةً، أو الدفاع عنه تارةً أخرى، فإنّ أحداً لا يمكن أن ينكر أنّ الواقع اللبناني، اقتصادياً ومعيشياً بالحدّ الأدنى، لا يقلّ هشاشةً أو خطورةً عن الوضع في العراق، بل ربما يتخطّاه بأشواط.

فإذا كان العراقيون انتفضوا على حكومتهم لأنّها لم تنجز شيئاً بعد مرور عامٍ على ولادتها، ولأنّ معركة مكافحة الفساد لم تنطلق، سوى بالتصريحات والشعارات الرنّانة، في وقتٍ يسجّل العراق الأرقام القياسيّة في هذا المجال، فإنّ لبنان لا يبدو أفضل حالاً، حيث تصارع الحكومة التي أطلقت على نفسها اسم "إلى العمل"، نفسها بنفسها من أجل العمل، فيما تتقاذفها المعارك والسجالات من داخلها، قبل الخارج.

وإذا كان العراقيون يطلبون الحدّ الأدنى من البديهيات الضرورية من أجل حياةٍ كريمةٍ بعيدةٍ عن الذلّ، فإنّ اللبنانيين أيضاً لا يبدون أفضل حالاً، هم الذين لا يزالون محرومين من الكثير من الخدمات الأساسية، على غرار المياه والكهرباء، في ظلّ موجات التقنين القاسي التي يواجهونها في مختلف المناطق، وسط حديثٍ دائمٍ عن خطط تغذيةٍ على مدار الساعة، إلا أنّها تبقى حبراً على ورق، وهم المهدَّدون أيضاً بأزماتٍ متنقّلة بالجملة تبدأ ولا تنتهي، من النفايات إلى المحروقات وما بينهما من أزمةٍ اصطُلح على تسميتها بأزمة الدولار، وما يتفرّع عنها من أزماتٍ تطال أكثر من قطاع حيويّ وجوهريّ.

ولعلّ ما يجمع بين لبنان والعراق أيضاً يتمثّل في الوعود التي لم تتحقّق، علماً أنّ لبنان يعيش منذ أكثر من عام على وعد مؤتمر "سيدر"، الذي تمّ تصويره وكأنّه سيمثّل "نهضة" اقتصادية قلّ نظيرها في لبنان، إذ سيوفّر آلاف فرص العمل، وينهي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يئنّ بسببها اللبنانيون، فإذا به لا يزال حتى اليوم "مجمَّداً" بانتظار تحقيق الحكومة لتعهّداتها بالإصلاح، الذي يتناقض ربما مع نهج "المحاصصة" الذي اعتادت عليه الحكومات المتعاقبة منذ الطائف وحتى اليوم.

هواجس وأكثر...

ما يجمع بين لبنان والعراق في الاقتصاد والاجتماع كثير إذاً، وهو بلا شكّ، وبعيداً عن موجة الشائعات التي تجتاح الساحة هذه الأيام، يمكن أن يكون سبباً منطقياً وبديهياً لنشوب "ثورة" حقيقية وجدية في كلا البلدين، بل إنّها "ثورة" طال انتظارها على الأقلّ في لبنان، حيث تكاد الطبقة المتوسّطة مثلاً تغيب كلياً عن الصورة، لينحصر الفرز بين الأغنياء والفقراء.

لكنّ ما يجمع لبنان والعراق لا ينحصر عند الهمّ المعيشيّ فقط، بل يمتدّ إلى الانقسام السياسي الذي يتّخذ طابعاً مذهبياً، ما يثير الكثير من الهواجس من خروج أيّ تحرّك يمكن أن يُنظَّم عن السيطرة كما حصل في العراق، وكما كاد يحصل في لبنان الأسبوع الماضي، سواء بفعل طابورٍ خامسٍ أو غيره، ولو أنّ البعض يعتقد أنّ البيئة اللبنانية لا تبدو قابلة لمثل هذا السيناريو، نظراً لإمساك المكوّنات الحكومية بزمام المبادرة، وقدرتها على تحريك الشارع بإشارةٍ واحدةٍ.

لكن، مع ذلك، يخشى كثيرون أن يكون المشهد العراقيّ جزءاً من مسارٍ قد يمتدّ إلى مناطق أخرى، يبدو لبنان على رأسها، بمُعزَلٍ عن فرضية "نظرية المؤامرة" التي لا تزال تجد صدىً لدى شرائح واسعة من المواطنين، بل ومن النُّخَب، في مفارقةٍ مثيرةٍ للجدل. فالسياسة لم تكن غائبة عن صورة التظاهرات، التي ارتفعت فيها شعاراتٌ سياسيّة، تكاد تشبه إلى حدّ بعيد، وجع اللبنانيين، خصوصاً أولئك الذين يدينون التبعيّة للخارج، بل يرفضون أن يطغى الولاء لهذا المحور أو ذاك على الأجندة الوطنيّة.

وفي هذا السياق، لا يبدو مستغرَباً ربط البعض لما حصل في العراق بالصراع الأميركي-ال​إيران​ي المتفاقم، خصوصاً مع إطلاق شعاراتٍ مناهضة لإيران من قلب تظاهرات بغداد، ما فسّره البعض وكأنّه توظيفٌ للشارع من جانب ​الولايات المتحدة​، في إطار المواجهة التي تخوضها واشنطن مع طهران، والتي كانت شهدت في الآونة الأخيرة أكثر من فصلٍ عراقيّ، ربطاً بالاعتداءات التي استهدفت مقار لـ "​الحشد الشعبي​"، فضلاً عن إعادة الهيكلة التي طالت الأخير.

ومن الواضح أنّ لبنان بدوره جزءٌ من هذه المواجهة منذ فترة غير قصيرة، وهو ما كشفته بوضوح حركة الموفدين الأميركيين المكثّفة باتجاه بيروت، توازياً مع توسيع العقوبات التي تطالب "​حزب الله​"، بوصفه "ذراعاً إيرانيّة" أساسيّة في المنطقة، والتلويح بإمكان أن تشمل العقوبات شخصيّاتٍ سياسيّةٍ حليفةٍ للحزب، خصوصاً في ضوء "الغطاء" الذي توفّر بعض القوى في السلطة للحزب. وبالتالي، فإنّ تحويل لبنان إلى "ساحة" لتصفية الحسابات بين واشنطن وطهران لا يبدو مستحيلاً، وإن أصرّ البعض على استبعاده آنياً لأسبابٍ واعتباراتٍ كثيرة، تنتفي بمجرّد إطلاق صافرة "المواجهة الكبرى".

اللقمة لا توحّدهم!

بين لبنان والعراق، الكثير من القواسم المشتركة، ولكن أيضاً الخلافات.

برأي البعض، ما حصل في العراق يفترض أن يتكرّر في لبنان، باعتبار أنّ المعاناة واحدة على كلّ الصعد، وأنّ الطبقة السياسية لم تقدّم حتى الآن النموذج الواعد في مكافحة الفساد، سواء لغياب الإرادة، أو لعدم القدرة على ذلك أصلاً، بالنظر إلى "مافيات الفساد" التي اكتسبت "شرعيّة" على مدى الأعوام الماضية.

ولكن، في مقابل هذا الرأي، رأيٌ آخر يقول إنّ السيناريو ساقطٌ سلفاً، ولو تمّ التمهيد له دولياً وعلى أعلى المستويات، ليس فقط لأنّ لعبة الشارع جُرّبت سابقاً، وثبُت أنّ لكلّ شارعٍ شارعاً مضاداً، بل لأنّ اللبنانيين لا يزالون يغلّبون ولاءهم الحزبيّ على أيّ شيءٍ آخر، لدرجة أنّ لقمة العيش نفسها لم تعد توحّدهم!.