اكثر من كتاب واكثر من سيرة حياة، بل إنّه مخطوط حياة بين دفتي كتاب تحت عنوان "الأخ نور"للدكتور ربيعة ابي فاضل. أما لو كان لي لكنت اسميته "شهادة واتعّاظ" أو"نبيّ لعصرنا" أو "تجليات إنسان بكل أبعاده الإنسانيّة".لكنّالمؤلّف اختار بكل بساطة العنوان الذي اختصر هذه العناوين كلّها بتجرده، "الأخ نور".

هذا الاسم العلامة الذي طبع ذاكرتي عندما كنت في السابعة من عمري تخيلّت أنه من مهجّري الجبل الذين أنا منهم، وقد فقد كل شيء حتى صوابه. إلا أنيتعجبت عندمارأيته يقدّم المعونات ويوزّعها على المتروكين من مأكل وملبس وادوية،وهو ممّن يظهر على محياه الجوع والعطش، بل قمّة ​الفقر​، إذ إنه حافي القدمين، كذلك في الحرب الأهلية المشؤومة وتحت القصف كان يذهب إلى الملاجىء لزيارة، وتعزية المحزونين وافتقاد المرضى والمأسورين، وهذا ما اكّده الدكتور انطوان ​عبدو سعد​ في مقدمة الكتاب.اما أنا،ويومذاك،فقد قصوّا سيرته على قدر استيعابي، إذ كان موضوعهاعلى كل لسان.

لكني عدت والتقيته وأنا كاهن عندما اوكلت إليّ رهبنتي الأنطونية خدمة مدرسة التوجيه الاجتماعي التي تعنى ب​الأطفال​ الذين قست عليهم ​الحياة​، في قسمها الداخلي فتواصل معي الأخ نور للتشجيع ولتأمين مختلف ​الهدايا​ والمعونات العينية، ومازلت التقيه، ولكن لا اتذكر أني التقيته في كل مرّة اكثر من دقائق معدودة، بحيث أنسحب ويبقى قلبي وعقلي منبهرين بكلماته القليلة ومحبته الكبيرة والكثيرة، كما بهرني وانا صغير بل اكثر...

لذلك انكببت على قراءة هذا الكتاب بشغف، وكيف لا وفيه الكثير من الأسئلة التي لم ولن أجرؤ على طرحها.

لقد نجح الدكتور ربيعة ابي فاضل في موضوعين في هذا الكتاب، الأول اقناع الأخ نور بالكتابة والطبع، والثاني في منهجّيته. لقد ادرك المؤلف رهبة هذا المشروع الكتاب، الموضوع الحي إذ قال:"يحتاج إلى فينومينولوجيا هيرمينطيقية تنطلق من الأفعال، صغيرها والكبير، نحو الأبعاد الفكرية الفلسفيّة واللاهوتيّة القريبة والبعيدة، الهرمسيّة والمكشوفة، الفرديّة والجماعيّة كي يقارب الكاتب الحقيقة بعد أن كان عاصر الأخ نور وعايشه" (ص 2).

لقد غاص المؤلف في أبعاد شخصية الأخ نور النفسية والروحية، اللاهوتية والفلسفية في لغة عربية مرهفة ومشوّقة وصفيّة ودقيقة، ليصبح هذا الكتاب اقرب إلى سيرة القديسين منه إلى تدوين سيرة الغيريّة او السرد الروائيّ أو التأريخ الروحي. (ص 38).

فيُعرّف عنه "إنه جهاد جورج بساليس اليوناني، الحلبي، اللبناني، وقد تناسى عاطفة أمّه وتجارة أبيه، وأنس إخواته، ورفاقه، في برج حمّود، وقرّر ألا يكنز كنوزًا على الأرض حيث السّوس، ولا يعبد ​المال​، وألّا يهتم لنفسه بما يأكل، ولا لجسده بما يلبس، حاسبًا نفسه طائرًا من طيور السماء وزنابق الحقل، مكتفيًا بطلب ملكوت الله، وبرّه، غير آبه بما يحمل الغد له من شؤون وشجون، لأن كلّ من سأل يعطى، وكل ما تسألونه في ​الصلاة​ بإيمان تنالونه". (ص 11).

ويستفيض المؤلف فيشرح مفاهيم الأخ نور الروحية العميقة حيث يرجّح في شرحه على أن المسيحيّة في حياته ثورة مستمرة على الذات وفي الذات (ص 13).

بين النسك في بطون الجبال ومحابس في اعالي الجبال، وجد الأخ نور نسكه الجديد لهذا العصر في مكتبه، قلّايته، منسكه في المحطة الاعلامية تلي لوميار محّولا الوثنية ​الجديدة​ إلى منارة "كان الأخ نور صاحب رؤية ورؤيا عندما اكتشف فجأة، بقوة الروح، أنّ ​المستقبل​ القريب هو الإعلام، لكونه سوف يؤثّر في مسيرة البشر، وفي العقل والوجدان، وسوف يحرّك البشرية إمّا نحو ​البناء​، والنهوض، أو نحو الهدم والدمار..." (ص 16).

يتضمن الكتاب مقابلة مع والدة جهاد التي أجراها المؤلف بحرفّية عالية فتكشف اسرار طفولة. وانا اشهد أنه لم يشارك في صلاة المرافقة ولا الوداع وعندما اتّصل به صهره ليعلمه بخبر وفاتها،فسبقه بالقول إنّ المسيح قام ودمعت عيناه، وهو من قالت عنه أمّه " لديه عادة لافتة وهي أنه في الموت يرفض البكاء".وكم طالبته "دعني أسمع صوتك ب​الهاتف​، قال: أنا أعمل ما أعمل حتى أكون جديرًا بكِ".

يؤمن الأخ نور بدور العلمانيين في الكنيسة، وافكاره تعكس تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني وتعاليم البابوات، وعلى الرغم من محبته للبابا القديس يوحنا بولس الثاني، فإنيّ اراه قد ذهب إلى العمق مع ​البابا​ فرنسيس ولهما الشفيع نفسه القديس فرنسيس الأسيزي.

إن اهمية هذا الكتاب الذي يختصر حياة الأخ نور التي لا تختصر،يتخلّلهبعض المحاضرات التي قدمّها الأخ نور في بداية رسالته، وعيّنة من مذكراته وتأملاته وصلاته الشخصية التي تبقى مدرسة للتأمل والحياة. اضافة إلىشهادات ونصّوص عنه.

إنّ ما لم أجرؤ على سؤالك إيها العزيز نور، فإنيّ قد وجدت بعض الإجابات فيه، إلا أنّي في نهاية هذا الكتاب، ادركت أن أسئلة كثير لا تجيب عنها كلمات، بل تبقى رهنًا بخبرات الحياة!