عادت منطقة شرق الفرات في سوريا إلى الواجهة من جديد، انطلاقاً من الإستعدادات التركية لشنّ عمليّة عسكريّة واسعة تستهدف "​قوات سوريا الديمقراطية​" ذات الغالبية الكردية، كانت قد هدّدت بها ​أنقرة​ على مدى السنوات السابقة، إلا أنّ "الفيتو" الأميركي، الّذي كان يحول دون إطلاقها، رفع على ما يبدو، نتيجة الإتصالات المتكررة بين الرئيسين التركي ​رجب طيب أردوغان​ والأميركي ​دونالد ترامب​.

طوال الفترة السابقة، كان الأكراد يراهنون على الغطاء الأميركي لمنع الأتراك من الإستفراد بهم، وهو ما قدم على أساس أنه وعد قاطع لدى إطلاق العملية العسكرية في منطقة عفرين، حيث كان التأكيد أن "حماية" واشنطن تشمل مناطق شرق الفرات دون سواها، متجاهلين جميع التحذيرات التي كانت توجه لهم، والتي كان أبرزها من السفير الأميركي السابق في دمشق ​روبرت فورد​.

في الأوساط الكرديّة، هناك الكثير من الإتهامات اليوم، بحسب ما تؤكّد مصادر مطلعة لـ"النشرة"، بأنّ الولايات المتحدة لم تفِ بإلتزاماتها حياء إنشاء آلية لضمان أمن الحدود مع تركيا، بالرغم من أن "قوّات سوريا الديمقراطيّة" أبدت مرونة على هذا الصعيد لتجنّب أيّ مواجهة عسكريّة مع أنقرة، التي كانت تسعى إلى الحرب على الأكراد منذ اليوم الأول.

وبعد أن سحبت الولايات المتحدة قوّاتها العسكريّة من المناطق الحدوديّة مع تركيا، يبدي الجانب الكردي الإستعداد لمواجهة أيّ حملة تركيّة بالإمكانات العسكرية المتاحة، بالتزامن مع رفع لواء التحذير من أنها ستكون مقدمة لعودة تنظيم "داعش" إلى الحياة من جديد، في رسالة مواجهة إلى العالم الغربي بالدرجة الأولى، لكن المصادر نفسها ترى أنّ على الأكراد أن يطرحوا على أنفسهم الكثير من الأسئلة حول الرهانات الخاسرة التي تبنّوها، خصوصاً أنّ الجميع كان يعلم بأن واشنطن لن تغامر بالخلاف مع الحليف التركي من أجلهم.

من وجهة نظر هذه المصادر، الموقف الأميركي يوحي بأنّ الولايات المتّحدة تريد أن ترعى مواجهة "ودّية" بين الحليفين الكردي والتركي، لكن في حقيقة الأمر هي تعطي الضوء الأخضر لأنقرة لتنفيذ مخططاتها، في حين أنّه كان لدى الأكراد، في الفترة السابقة، الكثير من الخيارات، منها تفعيل قنوات الإتصال مع الحكومة السورية، بعيداً عن لعبة رفع سقف الشروط عالياً، لا سيما أنّ ليس هناك من قوّة إقليمية فاعلة راعية لتلك الشروط، لكنّها تشدّد على أنّ ذلك لا يعني أن المعركة ستكون بمثابة النزهة لأنقرة، نظراً إلى أن المنطقة قد تتحول إلى ما يشبه "المستنقع" الفعلي.

من جانبه، يستغرب مدير المركز الكردي للدراسات نوّاف خليل، في حديث لـ"النشرة"، الموقف الأميركي، لا سيّما أنّ المتحدث باسم ​البنتاغون​ شون روبرتسون كان يعتبر، قبل أيّام قليلة، أنّ أي عملية تركية شمالي سوريا ستقوض المصالح المشتركة، ويشدد على أن واشنطن لا تستطيع أن تفرض على سكان المنطقة رفع الراية البيضاء، ويسأل: "بأيّ معايير يتحدّث الأميركي عن تولّي أنقرة إدارة ملفّ المعتقلين من مقاتلي تنظيم داعش"؟، ويضيف: "هذه العملية ستؤدي إلى هجرة مليونيّة جديدة".

وفي حين يؤكّد خليل أنّ الأكراد سيكونون أكثر المتضرّرين من هذه العملية العسكريّة في حال حصولها، يشدّد على أنهم لن يكونوا الوحيدين بل هناك قوى محلية وإقليميّة أخرى، ويرى أنّ ما يحصل ليس تخلياً أميركياً عن الأكراد بل ان واشنطن تترك المنطقة لصالح روسيا وإيران والنظام السوري، ويعتبر أنّ هؤلاء لن يتركوا المنطقة لتقع بيد الجانب التركي كما يظنّ البعض، ويذكر بأنّ الولايات المتحدة كانت تعلن أنها لن تنسحب قبل القضاء على "داعش" وإنسحاب إيران، ويضيف: "التواجد الأميركي كان جزءاً من الأمن القومي، لمنع طهران من التمدد من بيروت إلى صنعاء".

ويشدّد خليل على أنه أمام الواقع المستجد ليس أمام الأكراد إلا المقاومة، خصوصاً أن هذه هي السماء الأخيرة التي لديهم، ويؤكّد أنّ الخيارات مفتوحة أمام صانعي القرار، ومنها التواصل مع الجهات الفاعلة الأخرى، ويضيف: "أسوأ إتفاق مع النظام أفضل من الإحتلال التركي".

في المحصّلة، هي معادلة جديدة يفرضها الجانب الأميركي على منطقة شرق الفرات، ستفتح الباب أمام موجة كبيرة من التحولات ولن تكون تداعياتها محصورة في رقعة جغرافيّة معينة، لكن السؤال الأساسي يبقى عن الموقف الفعلي لباقي الأفرقاء، لا سيّما روسيا وإيران وسوريا؟ وعمّا إذا كان هناك تسوية كبرى تشمل إدلب؟.