ما هذه المفارقة العظيمة أن بعض المسؤولين عندنا لا "يستفيقون" على تطبيق الدستور، فقط لأن المجتمع الدولي يطلب منهم ذلك، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان هذا الدستور قد دخل في غياهب النسيان.

على سبيل المثال لا الحصر، إستفاق المسؤولون عندنا على وجوب إحالة مشروع قانون ​الموازنة​ من مجلس الوزراء إلى ​مجلس النواب​ في المهلة الدستورية، أي في أول ثلاثاء بعد 15 تشرين الأول من كل سنة. هذا "الإنضباط" لا علاقة له باحترامهم لبنود الدستور وللشعب اللبناني بل لأنهم "مرغمون" على التزام شروط مقررات "سيدر" التي تستوجب رزمة من الإصلاحات والشروط ومن بينها انجاز الموازنة في المهلة الدستورية، وليس هذا فقط بل أن تتضمن الموازنة بنودًا إصلاحية.

اللبناني هنا يتحسر: هل يُعقَل ان حكومته لا تتنبَّه إلى الدستور إلا لدواعٍ خارجية؟ ألا يستحق هو أن يُطبَّق الدستور من أجله؟

***

لكن ما يُخفف من حدة هذا التحسّر ان ليس الدستور وحده هو الذي لا يُطبَّق من أجل ​الشعب اللبناني​ بل حتى القوانين المرعية الإجراء لا تُطبَّق أحيانًا.

هل قانون النقد والتسليف الذي يرعى العلاقة بين ​مصرف لبنان​ و​المصارف اللبنانية​، وبين المصارف والمودعين، يجري تطبيقه بحذافيره؟ واستطرادًا، هل قانون الصيرفة والعلاقة بين الصيارفة وبين مصرف لبنان ومع المواطنين، يُطبَّق أيضًا؟

هنا الإجابات موجودة عند المواطن العادي قبل أن تكون موجودة عند الخبراء لأن المواطن العادي على احتكاك يومي بالأسواق وبالمجتمع ويعرف نبض الشارع ومزاج الناس.

حال المواطن تقول: "لا التزام بالتسعيرات الرسمية ولا مَن يحزنون": ف​الدولار​ الأميركي بحسب مصرف لبنان يتراوح بين 1507 و1517، لكن مَن يستطيع تأمين الدولار بهذا السعر؟

لا نقاش في أن هناك سعرَيْن للدولار في لبنان اليوم: سعر مصرف لبنان الذي يتراوح بين 1507 و1517، وسعر الصيارفة الذي يصل إلى عتبة الـ 1600 ليرة للدولار. هذا السعر لم يعرفه لبنان منذ 25 عامًا عندما قرر حاكم مصرف لبنان تثبيت سعر صرف الليرة عند 1507 لكل دولار.

لكن السؤال الذي يحيِّر اللبنانيين هو: ماذا حصل في "ايلول الأسود" لتفلت الأمور دفعةً واحدة؟

ما الذي تغيَّر حتى أصبح مصرف لبنان غير قادر على التدخل في سوق القطع، وتَرَك الأمور على غاربها لدى الصيارفة؟

ألم يكن الوضع هو ذاته في شهر آب قبل شهر "أيلول الأسود"؟ لماذا لم يكن أحد يتحدث عن أزمة دولار؟

***

هنا الروايات تتعدد:

هل صحيح ان لبنانيين سحبوا جزءًا من ودائعهم إلى مصارف أجنبية؟

هل صحيح أن لبنانيين سحبوا أكثر من ملياري دولار وأودعوها في منازلهم؟

هل صحيح أن الفاتورة النفطية للبنان تضاعفت في الشهور الستة الأولى لأن هناك تهريبًا للمحروقات إلى سوريا؟

***

السلطة التنفيذية مطالبَة بتقديم أجوبة عن كل هذه التساؤلات، لكن هذه الأجوبة يجب أن تكون موحَّدة لا على غرار سعر الدولار بحيث يكون هناك جوابان، كما هناك سعران للدولار: جواب رسمي وجواب حقيقي، كما للدولار: سعر رسمي وسعر حقيقي.