تنقّل رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير ​جبران باسيل​، خلال وقت قصير، بين نيويورك وحارة حريك والقاهرة والحدت، في حركة سياسية- ديبلوماسية تعكس طبيعة الدور المركّب الذي يؤديه، محاولاً عبره حماية خياراته الداخلية من جهة، والترويج لها أو الدفاع عنها في الخارج من جهة أخرى.

تبدو مهمة باسيل في غاية الصعوبة، خصوصاً أنّ التنقل بين خطوط التماس المحلية والاقليمية والدولية محفوف بالمخاطر والتعقيدات. يعرف وزير الخارجية أنه ليس سهلاً أن تأتي من نيويورك لتلتقي السيّد حسن نصرالله في عزّ الحصار الاميركي على «حزب الله» ووسط تهديدات بفرض عقوبات على حلفائه، ثم تَحط في اليوم التالي في القاهرة وسط مجموعة من وزراء الخارجية العرب الذين يمثّل بعضهم دولاً تُعادي الحزب، حاملاً راية استعادة سوريا الى الجامعة العربية.

لم يكد باسيل ينهي كلمته المدوّية في مصر، حتى بدأ إطلاق النار السياسي عليها من بيروت، وتحديداً من معارضي الانفتاح على دمشق، ما بَدا أنه استكمال للسجال الذي اندلعت شرارته في مجلس الوزراء خلال جلسته الاخيرة، حين دعا الوزيران جبران باسيل ومحمد فنيش الى تفعيل التواصل الرسمي مع سوريا بعد إعادة فتح معبر البوكمال، بين العراق وسوريا، وتكليف وزير يمثّل الحكومة بهذه المهمة، الأمر الذي رفضه بشدة وزراء الحزب التقدمي الاشتراكي و«القوات اللبنانية».

ومع تفاعل كلام باسيل في مصر، دخل الرئيس سعد الحريري على الخط ببيان ينأى برئيس الحكومة عن طرح وزير خارجيته، إذ أكد التزام لبنان مقتضيات الاجماع العربي في ما يتعلق بالأزمة السورية، مُشدداً على أنّ البيان الوزاري للحكومة لم يقارب مسألة عودة سوريا الى الجامعة العربية.

لا يمكن فصل حماسة باسيل أمام مجلس وزراء الخارجية العرب لاستعادة سوريا الى الجامعة، وصولاً الى إبداء إستعداده أمس لزيارتها عن تلويح الرئيس ميشال عون في خطابه في نيويورك أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة بالتفاوض المباشر مع الدولة السورية لمعالجة ملف النازحين، إذا لم يتحمّل المجتمع الدولي مسؤولياته.

بالنسبة الى عون وباسيل، حان الوقت لإخراج العلاقة مع سوريا من دائرة «الغنج» والمزايدات، لأنّ مصالح لبنان والعرب الحيوية تقتضي ذلك بمعزل عن الحسابات الدولية، خصوصاً الاميركية، لكنّ هذا الطرح لا يزال يواجه اعتراضاً من قوى لبنانية وإقليمية في المحور المضاد، تعتبر أنّ لحظة فتح الأبواب أمام دمشق لم تَحن بعد، وإن يكن الاعتراض الخليجي قد أصبح أقل حِدّة قياساً بالماضي، وفق استنتاج مصادر واكَبت باسيل في اجتماع وزراء الخارجية العرب.

ماذا جرى في القاهرة أثناء رحلة الساعات المعدودة؟ وما هي طبيعة الملابسات التي رافقت خطاب باسيل؟

في بداية الأمر، جرت محاولة على مستويات عليا في الجامعة لإقناع باسيل بالعدول عن إلقاء كلمته، على أن تضمّ بدلاً من ذلك، الى الاوراق الرسمية للاجتماع الوزاري. لم يصدّق وزير الخارجية أذناه، وهالَه ما سمعه، مُنبهاً الى محاذير هذا «القمع»، ومبدياً تمسّكه بحقه في إلقاء خطابه كاملاً تحت طائلة فَضح ما حصل معه في الاعلام.

إستجاب المنظّمون مطلب باسيل الذي ألقى كلمة «مرتفعة السقف»، دعا فيها الى إنهاء مقاطعة الجامعة لسوريا، وعدم انتظار «الاضواء الخضراء» من اي مكان لاسترجاعها الى الحضن العربي.

وإذا كانت «مصيبة» الهجوم التركي على شمال سوريا قد جمعت، الى حين، العرب المُبعثرين حول موقف مُندّد بسلوك أنقرة، إلّا انّ باسيل اختار ان يقارب المسألة انطلاقاً من معادلة اخرى، قوامها انّ ما شجّع أنقرة على عدوانها هو التخَلّي العربي عن سوريا، والذي يمثّل أصل المشكلة.

وبالتالي، فإنّ أفضل ردّ على الاتراك يكون باستعادة دمشق الى حضن الجامعة. وعقب انتهاء باسيل من إلقاء كلمته، توجّه اليه وزير خليجي بالقول: «نحن لا ننتظر ضوءا أخضر من أحد»، فأجابه الوزير اللبناني: «ومن قال انني كنت أعنيك؟»

وتؤكد المصادر المطّلعة على مجريات مشاركة باسيل في اجتماع القاهرة أنّ العرب أصبحوا «نفسيّاً» أقرب من أي وقت مضى الى القبول بعودة سوريا الى صفوف الجامعة، لكنهم لم يصلوا بعد الى لحظة «تسييل» هذا الاستعداد النفسي وترجمته قراراً سياسياً علنياً، «لأنهم ليست لديهم بعد القدرة على اتخاذ مثل هذا القرار، وذلك في انتظار الاشارة الاميركية على الأرجح».

وتلفت المصادر الى انه يُسَجّل لباسيل، في هذا الاطار، انه «امتلكَ شجاعة المبادرة والاسبقية في الدعوة الى المصالحة العربية مع سوريا، ما يمنح موقفه قيمة مضافة ربطاً بمضمونه وتوقيته».

وتستغرب المصادر بعض ردود الفعل اللبنانية التي رفضت ما طرحه باسيل في القاهرة، من دون أي مواكبة أو محاكاة للمتغيّرات الميدانية والسياسية، «علماً أنّ تلك المتغيّرات فرضت مقداراً من المرونة والواقعية، حتى لدى دول عربية عُرفت بعدائها الشديد لدمشق خلال السنوات الماضية».

ولئن كان مجلس وزراء الخارجية العرب قد التأمَ أساساً لمناقشة التطور الدراماتيكي المُستجد، والمُتمثِّل في الهجوم التركي على الأكراد في شمال سوريا، غير انّ ذلك لم يمنع باسيل من انتهاز الفرصة لتسويق التفّاح اللبناني لدى الوزراء الذين التقاهم، على هامش أعمال المجلس.

وعند اجتماعه الى وزير الخارجية المصري سامح شكري، بادَره باسيل بالقول: «تفّاح... تفّاح يا معالي الوزير»، فردّ عليه مبتسماً: «خلص يا سيدي، التفاح على راسي». ولعله يمكن إختصار المشهد في ملتقى القاهرة بالرمزية الآتية: «تفاح باسيل في مواجهة سياسة السفرجل»، وفق مؤيدي رئيس التيار.