حين وضعت روسيا مشروعها لإعادة ​النازحين السوريين​ الى بلادهم، لم تحظَ بالتأييد الدولي الكافي لتطبيقه، وهي حاولت فرضه كأمر واقع بمساعدة عدد من الدول المعنية، الا انّ المسألة لم تكن بالسهولة التي بدت عليها، فوُضع المشروع في الثلاّجة وحفلت المنطقة بتطورات عديدة سرقت الاهتمام والانظار. اليوم، وبعد ان دارت عجلة الشرق الاوسط بأحداثها المتنوعة، انصبّ الاهتمام على تركيّا وبالتحديد على العلميّة العسكريّة التي اعلن عنها الرئيس التركي ​رجب طيب اردوغان​، والتي قُوبلت برفض عربي ودولي كاد ان يكون جامعاً لولا الدعم القطري، الذي لا يقدّم او يؤخّر عملياً بطبيعة الحال.

ولكن، اذا كان العالم كلّه قد أعلن رفضه وشجبه للتدخّل العسكري في ​تركيا​، فلماذا لم يرتدع اردوغان، وهل بامكانه فعلاً تحدّي الجميع؟ وهل يملك الامكانات العسكريّة والماليّة والاقتصاديّة والدبلوماسيّة لتحقيق هدفه؟. هنا، تختلف النظرة الى الامور، وفق المنظار الذي يتم المراقبة منه، فتعارض التوجهات السياسية، يقابله الواقع الميداني الذي يشير الى ان تركياّ قامت بما ارادت القيام به منذ نشوب الحرب في ​سوريا​. لم تكن انقرة في وارد القبول بقيام دولة كرديّة على حدودها، وهو ما اوضحته منذ سنوات عديدة، وكانت تحصل على تطمينات اميركيّة بهذا الخصوص، كما انّها لم تستطع التحرك عسكريّا بفعل الغطاء الاميركي الذي كان متوافراً للاكراد في حينه. حالياً، تبدّلت المعادلة وتقاطعت المصالح التركيّة والروسيّة في مكان ما، فتولّت موسكو أمر "العم سام" وكانت النتيجة اتخاذ الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ القرار المفاجئ بالتخلي عن الاكراد، وغضّ النظر عن الدخول العسكري الى سوريا، ولو لوقت قصير جداً لانه من المعلوم انّ الداخل الاميركي لم يكن ليسكت عن هذا الموقف. وفي غضون ساعات قليلة فقط، كان ​الجيش التركي​ قد اصبح في الداخل السوري، بفعل ضعف ​الجيش السوري​ من جهة، وعدم قدرة الأكراد على مواجهة جيش بحجم الاتراك، إضافة الى الغطاء الروسي الذي توفّر على الرغم من التحذيرات والتنبيهات العلنيّة الرافضة لمثل هذه العمليّة العسكريّة.

بالمبدأ استفاد الاتراك من العمليّة لارسال رسالة واضحة وشديدة اللهجة الى الاكراد، تقضي بعدم وجوب حتى الحلم بدولة كرديّة على الحدود، فالظروف التي توافرت لهم للسعي وراء حلمهم لن يشهدوا مثلها لعقود طويلة من الزمن، وبالتالي ما لم يحققوه اليوم لن يمكنهم تحقيقه في المستقبل القريب او البعيد. في المقابل، كانت روسيا مستعدّة للتخلّي عن جزء من سوريا لوضعه تحت "الحماية التركيّة" وبعدها تحت الحماية الدوليّة، لتأمين الملاذ لعودة النازحين السوريين من دول الجوار، وبالاخص تركيا التي ستتمكن من اجلاء الملايين من النازحين السوريين الى ارضها، ليغدو اردوغان بطلاً في نظر شعبه، وتحكم روسيا الامساك بالملفّ السوري من ألفه الى يائه، وسط انسحاب الادارة الاميركيّة مما تعتبره "مستنقعاً" لا ترغب في ان تعلق به، مع الاستفادة من بعض الميزات التي تأمّنت بالفعل عبر التفاهم مع الرئيس الروسي ​فلاديمير بوتين​.

ما خسرته سوريا والاكراد، كان المكسب الاساسي لكل من تركيا وروسيا و​الولايات المتحدة​، واذا سارت الرياح وفق ما تشتهيه السفن الروسيّة، فإن جزءاً كبيراً ومهماً من ملف النازحين السوريين، سيجد الحل خلال فترة قريبة ومقبولة من الزمن، فيما ستتعقد شؤون الاكراد الذين سيجدون انفسهم وقد عادوا الى ما كانوا عليه قبل اندلاع الحرب السوريّة، وقبل تدخّلهم المهم في محاربة "داعش" ليكونوا كـ"الزوج المخدوع"، والرجوع الى سياسة الكرّ والفرّ مع الاتراك دون تغيير جوهري في قواعد اللعبة القديمة.

ويظهر للجميع ان المغامرة التركيّة في سوريا، لم تكن عبثيّة او غير مدروسة، بل أتت كثمرة تفاهم وتعاون خفي بين اللاعبين الاساسيين فيها، مع رهان على الا تتأخّر نتائجها بالظهور.