أخبار صاعقة، اللبنانيون في ذهول: الرئيس ميشال عون وبمباركة ومساندة مطلقة من الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، كلف سعد الحريري بتشكيل حكومة انقاذ لبنان وولدت فورا حكومة من ستّة ضباط اقوياء ومتضامنون لا يتناقرون ولا يتكايدون .

كان لهذه الحكومة مطلبا واحداً ممن كلفوهم: رفع الغطاء عن حلفائهم وجماعتهم على ان يكون سيف العدل فوق اعناق الجميع. كان لهم ما أرادوا. والناس امام شاشات التلفزيون ترى وتسمع ولا تصدّق. والاخبار ترى. عشرات الوزراء والنواب منذ سنة 1990 ومئات كبار الموظفين والقضاة.

الذين نهبوا لبنان ومعهم كبار مصارف لبنان، وعدد قليل جداً من السياسيين هم رأس الفساد ومن المتحكمين بمصير لبنان منذ ثلاثين عاما.

امتلأت بهم فنادق بيروت البحريّة ومن ثم أتوا بنسائهم وأولادهم وأصولهم وفروعهم وشركائهم الحقيقين والوهميين وأمام عيني كنت أرى مليارات الدولارات واليورو وكل أنواع العملة. كانت تنقلها الطائرات الى مطار بيروت ويأخذها الجنود تحت حراسة مشدّدة الى مصرف لبنان الجديد بإدارة جديدة: حاكم جديد دون نواب لا لزوم لهم. وامام عيون الناس تفتح الان صناديق المجوهرات من كل أنواعها وضابط كبير من الجيش اللبناني يعاونه ضباط آخرون يقيّدون كل شيء في دفتر كبير. بعدها جاء دور صناديق السندات العقاريّة وسندات التأمين وسندات البنوك وسندات مصرف لبنان. آلاف السندات والاف الدونمات بإسم سياسيين وزوجات سياسيين كانت جيوبهم فارغة وبطونهم خاوية. لا يقدرون على شراء (رغيف فلافل بلا طراطور) عادت كلها الى أملاك الدولة.

وفجأة رأيت الرئيس عون شاباً دون الخمسين في عزّ عنفوانه رئيساً للبنان قوي فتي متحرراً من قيود الطائف والطوائف.

هذا الطائف الذي اضعف المسيحيين وخرّب لبنان. أعادت هذه الحكومة لبنان الى زمن الخمسينيات والستينيات: منارة اشعاع ونور ومؤسسات ودستور. رأيت الرئيس عون متوسطاً كميل شمعون وفؤاد شهاب وريمون اده وكمال جنبلاط وبيار الجميل ورياض الصلح وعادل عسيران وكامل الاسعد.

خرج الناس من بيوتهم في كل لبنان مذهولين لما يرون ورأيت نفسي مع الحشود المتدفقة الى قلب بيروت مع عائلتي وأولادي. كان الليل كأنه نهار. لبنان كان يشتعل بالأضواء. والكهرباء 24/24. شهر على شهر وسنة على سنة. هذه ساحة رياض الصلح. هنا كراج خان البيض. وهذه سينما الكابيتول وحلويات البحصلي وفي هذه البناية يوجد الخياط داوود الأرمني. صعدت الدرج الضيق مسرعا لأراه. تفاجأ بي، حضنني بقوة وبكى، مازال كما هو نحيفا نظارته على عينيه ومتر القماش حول رقبته. هذه بناية العازارية وهذه دار الأوبرا تحت القناطر والمكتبات وماسحو الأحذية على الطريق والبعض من السودانيين يبيعون الفستق الساخن. هذا هو المعرض، وافران الشامي، ومطعم الحياة، وحلويات الصمدي، وسوق الذهب. والى فوق سينما الأمبير وفلافل فريحة وصيدليّة الجميّل وسوق النجّارين. تقدّمنا قليلاً بين حشود الناس حتى سينما راديو سيتي وعليها ملصق كبير: مسرحية آخ يا بلدنا.

كأن شوشو كان يقرأ الغيب. توجهنا نزولا صوب سينما الريفولي حتى الحسبة ومقهى الاوتوماتيك والجليلاتي والحليب الطازج في الأواني النحاسيّة. محلاّت باب ادريس المملؤة بالناس: جبران متني، متني اخوان. ومحلات بوليمار ومئات المحلات، ومحلات الصرافة. تقدمت الى صراف واعطيته مئة دولار واعطاني 225 ليرة شعرت انني أصبحت غنياً. وبعد ذلك الى سوق ايّاس وبركة العنتبلي. وكنا نمشي بصعوبة بين الناس. وأصحاب المحلات تعبوا من كثرة البيع. ومن بعيد سمعنا صفّارة الترامواي مرّ من أمامنا يتلوى كالأفعى بلونه الأخضر الزاهي آتياً من جهة حرش بيروت نزولاً الى البسطة في رياض الصلح، ومن ثم الى الجميزة فالدورة. كان مزدحما بالركاب كعادته ومنهم من “تعمشق” على الأبواب.

عدنا الى بلدتنا جويّا كان الفرح يعمّ لبنان وكنت سعيدا لما آلت اليه الأحوال، بعد خمسين سنة عجاف، مرّت منذ اتفاق القاهرة المشؤوم والوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان. تقلبت في فراشي وأنا منتعش بالنسمات الآتية من وادي عيتيت تحت بيتنا. فإذا بأولادي الأربعة وأمهم معهم، وكريم يناديني كعادته دائماً: “آبّا، بعدك نايم ما بدك تودعنا حد السيارة”؟.

نهضت مسرعاً، نزلنا معاً، ركبوا السيارة، مشى “الشوفير” وئيدا،ً نزولاً الى مدرسة المبرات مقابل بيتنا. أخرجوا أكّفهم من السيارة مودّعين، لوّحت لهم بيدي وكذلك فعلت أمهم، سألتني ما بك؟ “مش على بعضك”. سألتها كيف رأيتم بيروت أنت والأولاد؟ هل هي جميلة؟ وترامواي بيروت أليس متل ترامواي نانت بفرنسا؟ قالت: نحن منذ زمن لم نذهب إلى بيروت.

دخلنا الى البيت. سألتها عن الكهرباء، قالت أنها مقطوعة. قلت لها: لكن الكهرباء كانت كل الليل مشعشعة في سماء لبنان، قالت لي: لو عرفنا أنك كنت مستغرقاً في منام لما كنا أيقظناك.

أجبتها: أجمل منام في حياتي. قالت: كثيراً ما تتحقق الأحلام.