يعيش ​لبنان​ منذ ليل الخميس الفائت، مشهداً جديداً كلياً في حياته السياسية والشعبية، اذ نزل ​اللبنانيون​، وللمرة الاولى منذ عقود، الى الشارع من اجل مطالب حياتية. فاجأ المتظاهرون في اليومين الاولين الجميع، وقلبوا التوقّعات والصورة التي التصقت بهم لجهة انّهم لا يتحركون الا لمطالب سياسية وبايعاز من رجال ​السياسة​ والاحزاب، واعطوا بذلك الامل للكثير من مواطنيهم (بمن فيهم أنا) بأنه هذه المرة استفاق ​الشعب اللبناني​ عن حقّ وقرّر اخذ الامور بيده، فرفع الاعلام اللبنانية دون سواها كان دليل وعي كبير وعلى ان تأثير الاحزاب كان ضئيلاً وجاء في مرحلة لاحقة من التظاهر، كما ان القاءالمسؤولية على جميع المسؤولين حتى الذين لم يتم ذكرهم في اي ​تظاهرة​ سابقة ادى الى كسر حاجز الطائفية والمحسوبية والبس التظاهرات لباس المصداقية النادرة.

نجح المتظاهرون في احراج من هم في موقع المسؤولية، ودفعوهم الى التعهّد بالقيام بشيء ما وفي وقت سريع، قد يكون كافياً او لا يكون، انما على الاقل اوصلوا رسالة قوية وجديدة. ولكن، من جهة ثانية، بدأ هذا الامل يتراجع من خلال عاملين اساسيين: الاول ما حصل من اعتداءات وتعدٍّ على الاملاك العامة والخاصة، والثاني وهو الاهم ويكمن في غياب الهدف الموحّد للمتظاهرين. العاطفة الصادقة التي دفعتهمللنزول الى الشارع في بدايات هذه الظاهرة، ليست كافية للحصول التغيير المنشود، فهناك عوامل رئيسية لا بد من توافرها، منها بسيطة كالتخلص نهائياً من اصحاب الدرّاجات النارية (الموبيلات) -الذين اثبتوا انهم ركيزة الافعال السوقيّة واصحاب التأثير السلبي الاكبر على التظاهرات وحرفها عن سلميّتها- ومنها اكثر تعقيداً وتتمثل في وضع هدف واحد فقط بدل تعدد الاهداف وتفرّعها، لانها تؤدي الى اضعاف قوة الطلب وتخفض من نسبة نجاح هذا التحرك. هناك غياب تام لمركزية التظاهرات بمعنى انه بدل ترك الامور لبعض الناس لاغلاق طريق من هنا واخر من هناك، تحدد نقاط ثابتة لتجمعات كبيرة تفعل فعلها بفاعلية اكبر، وتحظى بتعاطف الناس الذين لا يزالون مترددين في الانضمام الى مواطنيهم في الشارع، ف​قطع طريق​ ​المطار​ مثلاً على المسافرين كانت له اصداء سلبية على المواطنين انفسهم، ولم تنجح ذريعة قطع الطريق امام سفر السّياسيين الى الخارج، فهي ذريعة واهية وغير قابلة للتصديق.

واضافة الى التجمّع بأعداد كبيرة في أماكن معيّنة بدل التوزّع بأعداد صغيرة في الشوارع، يجب حمل قضية واحدة، بدل المطالبة حيناً بسقوط ​الحكومة​، وحيناً آخر بسقوط العهد او برحيل الاشخاص، او اطلاق شعارات نجحت في دول عربيّة تعتمد النظام الرئاسي واللاطائفيّة، على غرار "الشعب يريد اسقاط النظام". فهذا الشرط لا يعني فقط رحيل من يتواجدون في مراكز السلطة، بل اجراء تغييراساسي وشامل على النظام الدستوري اللبناني والاعراف المترافقة معه، فهل اللبنانيون مستعدون لهذا التغيير؟ واذا كان الهدف فقط رحيل رؤساء الجمهوريّة و​مجلس النواب​ و​مجلس الوزراء​، فمن يضمن الاتفاق على ملء الفراغ بالسرعة المناسبة ومن يضمن ان من سيخلفهم سيكون افضل منهم؟ اما النواب فكلام آخر، لانّ على اللبنانيين لوم أنفسهم على ما اقترفت ايديهم، وكان يجب عليهم إما عدم انتخاب الاحزاب، كل الاحزاب، او مقاطعة ​الانتخابات​.

تبقى القضية الاساس في معرفة ما اذا كانت التظاهرات قد نجحت ام فشلت، وهو حكم صعب بعض الشيء، لان نجاحها كان واضحاً في القدرة على توحيد اللبنانيين، ولكن عوامل فشلها تعود الى قلّة الخبرة في هذا المجال من جهة، والى عدم القدرة على الخروج من "العقليّة اللبنانيّة" التي تجعل من لبنان بلداً لا مثيل له سياسياً في ​العالم​، والمطلوب ملاحقة المسؤولين على الالتزام بكلامهم في تحقيق شيء ما ملموس وثوري، والا سيحمل التاريخ كل ما شهدناه في الايام الاخيرة ويضعه في حقيبته، حقيبة النسيان.