لم تكن الهبّة الشعبية الوطنية في ​لبنان​ متوقعة بهذا الحجم من الإحتجاجات. هي فاجأت كل الأحزاب والقوى السياسية الموجودة في السلطة أو الموالية لها، أو تلك المعارِضة التي حاولت أن تُمسك بزمام المبادرة الشعبيّة، لكنها فشلت. نزل المواطنون الى الشوارع بطريقة عفوية، لكن بداية، هناك من حاول إستغلال حراكهم المشروع لتوظيفه في أجندة خاصة، أو ترجم حقداً تاريخياً دفيناً ضد شخصيات وقوى، بإستهداف مقصود لإسقاط هيبة رئيسي الجمهورية ميشال عون ومجلس النواب نبيه بري، كما فعلت مجموعات يساريّة في الجنوب. ايضاً فشلت تلك المجموعات في سرقة الحراك الذي عاد وإنتظم في خط سير عفوي إحتجاجاً على "تصرفات السلطة الحاكمة"، بعدما فقد المحتجّون الثقة بالحكومة الحاليّة جرّاء الوجع المعيشي وعدم وجود رؤية إقتصاديّة واضحة لإنقاذ البلد. ومن هنا جاءت المطالبة بإسقاط الحكومة اولاً، لأنها لم تقدّم للمواطنين نتائج ملموسة، ولم تخاطب الناس، ولم تستطع ان تكسب ثقتهم.

لكن ماذا بعد؟

نجح الحراك في فرض نفسه لبنانياً بعدما تجاوز المحتجّون الطوائف والأحزاب والمناطق في مشهد غير مسبوق في تاريخ لبنان منذ الإستقلال، وهو سيحصد تغييرات كبيرة وفق أحد سيناريوهين: الحل أو الفوضى.

اولاً، في حال وافق المواطنون تلقائياً، أو اكثريتهم على الإصلاحات التي ستقدّمها الحكومة، سيمتنعون عن التظاهر كإشارة للموافقة على خطوة رئيس الحكومة سعد الحريري. وفي حال بقيت الأعداد تتوافد الى الشوارع والساحات، مع القيام بقطع الطرقات، فهذا يعني إصرار المحتجّين على رفض خطوة الحكومة، بإعتبارها أقلّ من المطالب التي رفعها محتجّون كإسقاط العهد أو الحكومة، أو كما عبروا "كلن يعني كلن".

يعرف اللبنانيون أن سقف المطالب مرتفع، وبالتالي هو مرفوض من قبل القوى السياسية. فتلك القوى والأحزاب لديها جمهورها ومؤسساتها وشارعها. فهل نصل الى مرحلة مواجهة في الشارع، وبالتالي تحلّ الفوضى في لبنان؟.

لا يمكن لأيّ لبناني معرفة مسار الايّام المقبلة، لكن حجم التظاهرات الضخمة في معظم المناطق، ونوعية المطالب المشروعة والشعارات تستوجب من كل الأحزاب والقوى إجراء مراجعة نقديّة شاملة لأدائها، وقيادييها، وخطابها السياسي والإجتماعي. لأنّ جميع الاحزاب فشلت في محاكاة هموم الناس، فسبقها الشعب الى الشارع بإندفاعة وطنية صافية.

تستطيع الأحزاب التي ترفع شعار الدولة المدنيّة والغاء الطائفيّة السياسيّة أن تتخّذ من حراك الشارع سنداً لها، بعدما تحدّث المواطنون عن وجوب تغيير النظام، وحدّد معظمهم بأن "النظام الطائفي" يجب أن يسقط كلّياً. فهل ترتقي كل الأحزاب لهذا العنوان، أم انها تبقى أسيرة حسابات طائفية؟.

بهدوء يمكن تفصيل المشهد. في حال اصرّ الحراك الشعبي الضخم على رفض إقتراحات الحكومة بالإصلاحات الموضعيّة الإقتصاديّة، وأصرّ على مطلب "إسقاط الكل"، من دون وجود بدائل، ولا قبول المؤسسة العسكريّة بالغرق في وحول السلطة، كتأليف حكومة عسكريّة -هو أمر غير وارد لبنانياً على الإطلاق- لن تقبل جماهير الأحزاب فرض خيار العزل، وقد تواجه في الشارع، مما يعني اننا سنصبح أمام شوارع متقابلة. هنا يسقط الهيكل اللبناني في المجهول. وهو أمر لا يريده أحد في لبنان، رغم الآلام التي يعانيها اللبنانيون، والفقر والضيق والعوز.

مما يحتّم على الحكومة والمتظاهرين معاً القبول بالواقعية التي تقوم على ضرورة حصول تغييرات جوهرية فورية، ولاحقة.

لا يمكن الإعتماد فقط على عدم فرض ضرائب جديدة على المواطنين، ولا الغاء مجالس وصناديق، أو إجراءات لها علاقة بالنواب والوزراء، بل يجب أنّ يتلمّس المواطنون تغييراً سريعاً في محاسبة القضاء لفاسدين وزراء حاليين وسابقين، ومدراء، ومسؤولين، ومتعهدين: من أين لهم ثرواتهم الطائلة؟ ثم معالجة مسألة الطبابة، كي لا يبقى الفقير متروكاً على أبواب المستشفيات، واعادة العمل بقروض الإسكان، والبدء بخطوات تعزّز من فرص العمل، بإعادة فتح المجال للتوظيف حيث الحاجة وفق الكفاءات لا المحسوبيات، والموافقة على نتائج مجلس الخدمة المدنيّة، وإصدار نتائج دورات الجمارك وقوى الأمن الداخلي، وفتح دورات جديدة في الجيش والامن العام، ثم البدء بتحويل اقتصاد لبنان الى إنتاجي بدل الريعي.

فلننتظر كيف سيكون المشهد اللبناني: إستقرار مقرون بالإستفادة من الرسالة الشعبيّة الوطنيّة وترجمة تداعياتها، أم فوضى مقرونة بزيادة سعر صرف الدولار الى مستوى غير محدود؟.