بات لبنان امام بداية النهاية بالنسبة الى المواجهات في الشارع بين اللبنانيين المتظاهرين الذين يطالبون بالاصلاح ووقف الهدر والفساد، وبين الحكومة التي تعتبر أنها قامت بما يمكن القيام به وبسرعة كبيرة. في الواقع، من المحتّم انّ كل تحرك لا بد وان ينتهي، إن بكسب المطالبين بحقوقهم معركتهم بشكل كامل، او بشكل جزئي. ووفق وجهة نظر الطرفين (ايّ المتظاهرين والحكومة)، فالتلاقي في بعض النقاط يحجبه طريقة المقاربة، في ظلّ الكمّ الهائل من الاخبار الكاذبة والملفّقة التي يتمّ تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والّتي لا هدف لها الا إرضاء من اطلقها من ذوي العقول الفارغة، للاسف.

*من وجهة نظر المتظاهرين: تتعدد مطالب هؤلاء، ومنهم من بات يرغب فقط بإسقاط الحكومة، فيما يصرّ البعض الآخر على اجراء انتخابات نيابية مبكرة، ويرى البعض منهم ان ما اعلنت عنه الحكومة يعتبر مقبولاً بالشكل انما ليس هناك من ثقة لوضعه موضع التنفيذ، بحكم التجارب السابقة التي اثبتت تفوّق المصالح الشخصيّة على المصلحة العامة.

كان من الطبيعي الا يعتقد احد انه بمجرد صدور قرارات ​مجلس الوزراء​ الاخيرة، سيعمد المتظاهرون الى "لملمة" عدّتهم الاعتراضيّة واخلاء الشارع واعادة الحياة الى طبيعتها في لبنان، وهو امر لم يكن مطروحاً لا من قبل المتظاهرين ولا من قبل الحكومة. ويرى المعتصمون ان الاستمرار في حركتهم، من شأنه ايصالهم الى مبتغاهم، في وقت تفاعل العالم اجمع مع مشاهد المظاهرات في لبنان. ولكن، المعضلة باتت في قدرة هؤلاءعلى الاستمرار بالزخم نفسه وبالفاعليّة نفسها مع مرور الوقت، والتوقّف عن متابعة حياتهم اليوميّة لهذا القدر من الوقت، خصوصاً وان البلد ليس مشلولاً بالكامل، أي ان هناك الكثير من القطاعات والمؤسسات لا تزال تعمل، وهو ما يؤثّر سلباً على عدد كبير من المتظاهرين.

*من وجهة نظر الحكومة، فإنه لا يمكن القيام اكثر ممّا تم اتخاذه، وانها اظهرت جدّية في التعاطي مع المتظاهرين، واعطاهم رئيسها ​سعد الحريري​ الفضل الاساسي في الوصول الى هذه النقاط الاساسيّة في الحياة الاقتصاديّة اللبنانيّة. ولكن، وفق الحكومة، فإنّه لا بدّ من الانتقال الى مرحلة لاحقة، ايّ مرحلة التنفيذ، وهذا يقتضي العودة الى الحياة الطبيعيّة وفكّ الاضرابات ورفع التظاهرات من الشارع و​قطع الطرقات​، لان من شأن الاستمرار به، عرقلة كل الايجابيات التي سجّلت في اليومين الماضيين، والتي تراهن الحكومة على كسب تأييد ​المجتمع الدولي​ تجاهها، وتشجيعه على السير بها وتطبيقها بما ينعش الواقع الاقتصادي اللبناني.

وبين هذه الوجهة وتلك، يبقى الجميع بانتظار الحل المرتجى، وسط عدد من السيناريوهات المطروحة والمنطقيّة وفق المعطيات وتطور الاحداث. من المستبعد كثيراً تطبيق طرح اعلان الاحكام العرفيّة او حال الطوارىء في البلاد، فلا الجيش في وارد الدخول في هذه المواجهة مع الشعب الذي لا يزال يتظاهر سلمياً، ولا الحكومة قادرة ان تستوعب التداعيات الكارثيّة لمثل هذا الامر الذي سيثير العالم اجمع ضدها، وسيؤدي ربما الى تغيير الواقع اللبناني ليس فقط من الناحية السياسية، بل من الناحية الدستورية ايضاً.

والامر نفسه ينطبق على الحديث عن قيام حكومة عسكريّة، إذ على الرغم من الثّقة الكبيرة ب​الجيش اللبناني​، ليس اتخاذ هذا القرار بمثابة نزهة عادية، فمفهوم الحكومة العسكريّة يقوم على احداث انقلاب إمّا ابيض او دموي، وهذا ما لن يقوم به الجيش ابداً، ناهيك عن انّه عند تسلم الحكومة العسكريّة سيكون هناك مواجهات حتميّة مع الشعب، ليتحوّل الجيش من حل الى مشكلة بالنسبة للكثير من اللبنانيين، وهو اسوأ كابوس بالنسبة الى الجيش اللبناني المعروف بتضحياته للجميع.

اما سيناريو تشكيل حكومة جديدة أكانت خالية من الاحزاب ام لا، فهي مسألة تحتاج الى توافق سياسي، لانه في لبنان ليس من الغريب ان تُفشل الطبقة السياسية والحزبية جهود اي شخص لا ينتمي إليها، ناهيك عن ان الاتفاق على اسماء الاشخاص الذين سيتولون المسؤوليات والمناصب لن يكون سهلاً، لا بالنسبة الى المتظاهرين أنفسهم (الذين ستفرّقهم الاعتبارات الطائفية والمذهبية وحتى معايير الكفاءة) ولا بالنسبة الى السياسيين. ولعل الحلّ البديل والاقرب الى التنفيذ، يكمن في اجراء انتخابات مبكرة وفق القانون الحالي بالطبع (لعدم إضاعة الوقت) على أن يكون الشرط الاساسي لنجاح التظاهرات، اتفاق اللبنانيين على التخلّي عن الاحزاب بشكل كلّي وليس بصورة جزئيّة، وانتخاب وجوه شابّة بعيدة عن المحسوبيّات والانتماءات الحزبيّة وقادرة على التجانس والتناغم في قراراتها لطيّ صفحة قديمة من التعاطي مع المسائل والمشاكل، وبدء صفحة جديدة تؤسس لمستقبل طموح للاجيال اللاحقة.

وعليه، قد يكون الحل الأنجع والّذي يرضي الجميع، هو في ابقاء التظاهرات إنّما في أماكن محددة، الى ان يتمّ تنفيذ الخطوات المعلن عنها، وهناك ايضاً وجه ايجابي في هذا الحلّ يسمح بالعودة الى الحياة اليومية الطبيعية من نقل النفايات، الى تزويد ​المصارف​ والماكينات المصرفيّة (ATM) بالنقود، والمحال التجارية بالمواد الغذائية، والمحطات بالوقود، والافران بالطحين، وفتح ​المدارس​ و​الجامعات​ والمصارف ابوابها... هذا هو الحلّ الّذي يلوح في الافق، وايجابيّته أنّه قابل للتنفيذ خلال ساعات معدودة فقط، فهل يبصر النور؟.