صار واضحاً أنّ أزمة الثقة المُستفحَلة بين العفويين من المتظاهرين والطبقة السياسية لا تزال تحول دون «تعليق» الانتفاضة الشعبية، ذلك أنّ الناس الذين دفعهم وجعهم الى الساحات لا يصدقون كل ما يصدر عن المُمسكين بزمام السلطة، وهم يعرفون أنّ عودتهم الى منازلهم ستمنح هؤلاء فرصة لالتقاط الانفاس مجدداً والتفلّت من الالتزامات التي قطعوها تحت الضغط... فما الحل؟

صحيح أنّ الورقة الاصلاحية التي أقرّها مجلس الوزراء تتضمّن كثيراً من الايجابيات، وبالتالي هي تشكّل نقلة نوعية الى الأمام في اتجاه التحديات الاقتصادية والمالية، إلّا أنّ المشكلة الأساسية تتمثّل في انعدام الثقة بشكل كامل في الفريق السياسي الذي سيتولى تطبيقها، بعدما جُرّب طويلاً وفَرّط بالفرصة تلو الأخرى كما اعترف رئيس ​الحكومة​ نفسه.

وربطاً بـ«السيرة الذاتية» لمعظم الطبقة السياسية، يسود شريحة من اللبنانيين اقتناع بأنّ المُتسبّبين في الأزمة لا يمكن أن يصنعوا الحل لها، إمّا لأنهم عاجزون بنيوياً عن ترجمة الورقة الاصلاحية، وإمّا لأنّ مصالحهم تتضارَب أصلاً معها.

ولَمّا كانت المشكلة الأكبر في هذه اللحظة، لا تكمن في مضمون الوصفة المُقترحة للعلاج، بل في من يتولى تنفيذها، فقد صار من المُلحّ بالنسبة الى أوساط متابعة تبديل أدوات المعالجة، لإعطاء الاصلاحات قوة الدفع المطلوبة ولإحداث صدمة إيجابية في صفوف المتظاهرين، بعيداً من النظريات والتنظير.

إنّ جانباً أساسياً من الأزمة الحالية بين الجمهور والسلطة بات يتمحور على عوامل نفسية تتصل بالخيبة والإحباط اللذين يشعر بهما معظم اللبنانيين حيال سلوك غالبية الطبقة السياسية. وبالتالي، هناك من يشدّد على أنّ تغيير بعض الوجوه المجرّبة، وحده يمكن أن يُريح المتظاهرين ويقنعهم بالانسحاب من الساحات، خصوصاً أنهم في حاجة الى تحقيق إنجاز ملموس وفوري، وليس انتظار مفاعيل الورقة الاصلاحية التي يحتاج تنفيذها الى وقت طويل.

ويعتبر المتحمّسون للتغيير الحكومي (سواء عبر إجراء تعديل وزاري واسع أو تشكيل حكومة جديدة) أنّ الورقة الاصلاحية ستبقى شيكاً مهدداً بالارتجاع، ما لم تستبدل عدة الشغل البالية بأخرى أكثر نضارة، مشددين على ضرورة تأمين الرافعة المناسبة لهذه الورقة، حتى لا تضيع بنودها لاحقاً في زواريب المماحكات السياسية التقليدية.

وتلفت أوساط متابعة ضمن بيئة «​8 آذار​» الى أنّ شركاء التسوية، أي الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري و«حزب الله»، يجب أن يدفعوا نحو إجراء التغيير الحكومي في أقصر وقت ممكن، وذلك للاعتبارات الآتية:

- إنّ إعادة النظر في الواقع الحكومي من شأنها أن تلبّي مطلباً أساسياً يشكّل قاسماً مشتركاً بين جميع المتظاهرين، الأمر الذي سيدفع الكثر منهم الى إعطاء فرصة للوجوه الجديدة، وسيؤدي الى فرز الصادقين عن أصحاب الاجندات السياسية.

- إنّ التضحية بالحكومة أو بجزء أساسي منها سيلجم خطر الانزلاق الى الفوضى، وسيحول دون تَدحرج المواجهة الى سقف سياسي أعلى أو الى ساحة مقابل ساحة.

- بالنسبة الى عون تحديداً، سيسمح له التغيير الحكومي بالتخلّص من أعباء ثقيلة في مجلس الوزراء، والاستناد الى فريق عمل مُتجانس يمكنه أن يحقّق الانتاجية المطلوبة بعيداً من التجاذبات التي انهكَت الحكومتين الاولى والثانية، واستنزَفت رصيد النصف الأول من ولاية العهد، والأهم أنّ مُسارَعة عون الى إجراء «الهندسة الوزارية» ستضع حداً لمحاولات استغلال الانتفاضة في اتجاه التصويب عليه وتحميله مسؤولية أزمة متراكمة، ورث كثيراً من عواملها.

- في ما خَصّ «حزب الله»، هو ليس مضطّراً الى تحمّل أوزار سلطة مُترهّلة لم يكن شريكاً في ارتكاباتها، والتغيير الحكومي المتناغم مع المزاج الشعبي العام سيفيده في إحباط اي مسعى يرمي الى استثمار الانتفاضة الجماهيرية لاستهداف حليفه الاستراتيجي في رئاسة الجمهورية، أو لوضع الحراك في مواجهة المقاومة وزَج مسألة السلاح في سلّة المطالب. وبالتالي، فإنّ البراغماتية في التعامل مع خيار النفضَة الحكومية ستقطع السبل والفرَص أمام الاجندات الداخلية والخارجية التي يعتبرها الحزب مشبوهة.

- الحريري بدوره سيستفيد من التغيير الحكومي المفترَض لتَرشيق مجلس الوزراء وتفعيل دوره، علماً أنّ المنحى العام يؤشّر الى أنّ الحريري باقٍ في السلطة، أيّاً يكن السيناريو المستقبلي، كونه ضمانة لمؤتمر «سيدر» وللمجتمع الدولي.

والى جانب كل هذه الاعتبارات، سيسمح تبديل الواقع الحكومي بإراحة الجيش الذي أنهكَه الاسبوع الأول من الاحتجاجات الشعبية، خصوصاً أنّه اختار الدور الأصعب وهو عدم قمع المتظاهرين حتى الآن، واعتماد التوازن الدقيق بين حماية حقهم في الاحتجاج والانسجام مع توجيهات السلطة السياسية.

أمّا القول إنّ الخَوض في ورشة التغيير الحكومي قد يكون صعباً، خشية الدخول في نفق الخلافات بين القوى السياسية على البديل وما يمكن ان يجرّه من تداعيات، فهو طرح ليس دقيقاً وفق أنصار النفضَة الحكومية، «لأنّ من أنجَز ورقة إصلاحية غير مسبوقة في 72 ساعة تحت الضغط الشعبي، يمكنه تشكيل حكومة جديدة من أصحاب الكف النظيف والخبرة الضرورية في وقت قياسي، خصوصاً إذا جرى التحضير لها مُسبقاً، قبل استقالة تلك الحالية».

ويشير أصحاب هذه المقاربة الى أنه يُفترض أن تكون الرسالة قد وصلت الى السياسيين، وفحواها أنّ ما بعد 17 تشرين الاول ليس كما قبله، بحيث انّ معايير تأليف الحكومات يجب أن تتبدّل أيضاً، على قاعدة أنّ أحداً لم يعد يملك تَرف المحاصصة والتَمترس لأشهر أو حتى لأسابيع خلف شروطه.