منذ بدء التحرّكات الشعبية قبل أكثر من أسبوع، طُرحت فكرة التغيير الحكوميّ بشكلٍ واسع بين القوى السياسية المشاركة في الحكم، وفق قاعدة أنّ إزاحة بعض الأسماء المجرَّبة، والتي قد تكون "مستفزّة" للرأي العام، يمكن أن تؤدي إلى إراحة الشارع.

على طريقة البورصة، كانت أسهم هذا الطرح ترتفع تارةً، وتتراجع تارةً أخرى، تبعاً لمنطق "المقايضة" الذي يصرّ عليه البعض، في مقابل حرص البعض الآخر على "تحييد" نفسه، في محاولةٍ لتوظيف تحرّكات الشارع العفوية لـ"تصفية الحسابات" بينه وبين وزيرٍ من هنا أو هناك.

مع كلمة رئيس الجمهورية بالأمس القريب، وما تضمّنته من دعوةٍ لإعادة النظر بالواقع الحكوميّ، بدا أنّ الفكرة قابلة للتحقّق، رغم كلّ المعوّقات التي لم تنتهِ فصولاً، وهو ما عزّزه ترحيب رئيس ​الحكومة​ سعد الحريري بالأمر، بل خروج بعض المحسوبين على "التيار الوطني الحر" نفسه بمواقف مناهضة للحكومة الحالية.

ولكن، هل ينفع التغيير الحكوميّ فعلاً في حلّ الأزمة؟ هل يكفي تغيير بعض الأسماء من هنا أو هناك لإقناع الناس بمغادرة الشوارع؟ وأيّ شروطٍ يجب أن تتوافر في أيّ تعديلٍ وزاريّ لتكون له فرصة جدية للإنقاذ؟!.

تصفية حسابات؟!

منذ اليوم الأول للأزمة، طُرِحت الكثير من الأفكار للتغيير الحكوميّ، سواء على طريقة استقالة الحكومة بالكامل وتشكيل حكومةٍ جديدةٍ بوجوهٍ غير مستهلَكةٍ، وفق قاعدة الرجل المناسب في المكان المناسب التي لطالما غُيّبت عن تشكيل الحكومات في لبنان، أو على طريقة الإبقاء على الحكومة الحاليّة، مع تغييرٍ واسعٍ في وجوهها.

جاء ذلك على خلفية إقرار المكوّنات الحكوميّة بأنّ مطالب الناس مُحِقّة، وبأنّ البلاد ليست في أفضل أحوالها، وبأنّ المطلوب تغييرٌ جدّي وهائل، لم يكن متوقّعاً أن تكفي ورقةٌ إصلاحيّةٌ في إحداثه، خصوصاً أنّ أحداً لم يعد يصدّق وعود الحكومات المتعاقبة التي سبق لها أن نشرت أوراقاً مماثلة لم تطبّق شيئاً منها، وما البيان الوزاري للحكومة الحالية، التي ارتأت أن تطلق على نفسها لقب "إلى العمل"، سوى الدليل الأسطع على ذلك.

سرى اعتقادٌ بأنّ المطلوب تغييرٌ ملموسٌ على الأرض يمكن أن يُقنِع الناس بأنّ شيئاً ما تغيّر في المقاربة، لإعطاء الحكومة فرصة، ولو محدودة زمنياً، لتحقيق تعهّداتها الجديدة، إلا أنّ المشكلة التي طرأت، والتي حالت دون إحداث هذا التغيير حتى تاريخه، تمثّلت في الأسقف المرتفعة لدى البعض، والشعور بوجود أفرقاء داخل الحكومة اختاروا "ركوب الموجة" لتصفية الحسابات مع شركائهم، وتحديداً مع رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية جبران باسيل.

فعلى الرغم من أنّ اسم الأخير كان من بين الأكثر تكراراً في الشارع، ولو من خلف شعار "كلن يعني كلن"، وعلى الرغم من أنّ تسريباتٍ أوحت باستعداد الرجل لنقاش "خروج لائق" من الحكومة، فإنّ ما حال حتى الآن دون ترجمة ذلك على أرض الواقع، تمثّل في شعور باسيل أنّ المطلوب "رأسه" أولاً وأخيراً، وكأنّ هناك في الحكومة، قبل خارجها، من يريد إزاحته فقط، وبالتالي تصوير الأمر وكأنّه "انتصار" له، بما ينهي المستقبل السياسيّ لباسيل، في وقتٍ يصرّ الأخير على أنّ خروجه لا يمكن أن يتمّ سوى بالتوازي مع أسماء حزبيّة أخرى، هي من "الثوابت" الحكوميّة، وتتحمّل المسؤولية انطلاقاً من موقعها الوزاريّ، أكثر منه بأشواط.

الكلمة للشارع!

ولكن، ماذا لو حصل التغيير الحكوميّ اليوم؟ هل يترك الجمهور الساحات، ويعطي الفرصة للحكومة لتطبيق أجندتها الإصلاحيّة الموعودة؟ هل تُحَلّ بذلك الأزمة، فتعود البلاد إلى الحدّ الأدنى من الحياة الطبيعية، ولو لفترةٍ محدّدة من الزمن، ريثما يُعاد تقييم الأمر؟.

لا شكّ أنّ الكلمة تبقى أولاً وأخيراً للشارع، الذي أثبت على مدى أكثر من أسبوع قدرته على تحقيق ما ظنّه كثيرون مستحيلاً لعقودٍ من الزمن، لكن لا شكّ أيضاً أنّ أيّ تغييرٍ حكوميّ يجب أن يخضع لسلسلةٍ من الشروط الموضوعيّة، التي تجعل منه قابلاً للحياة.

ثمّة هنا من يتحدّث عن تغييرٍ وزاريّ واسع وعابر للطوائف والأحزاب، يشمل أسماءً "مستفزّة"، ولو نسبياً، من كلّ الأحزاب، من جبران باسيل، إلى علي حسن خليل، مروراً بمحمد شقير، وجمال الجراح، وصولاً إلى يوسف فنيانوس، ووائل أبو فاعور، وربما محمد فنيش وفادي جريصاتي، وآخرين.

ولكن، ثمّة من يسأل في المقابل، هل الحلّ يكون باستبدال الأسماء؟ ما الذي سيتغيّر إذا ما تمّ استبدال باسيل مثلاً بوزيرٍ آخر من "التيار الوطني الحر"، ولو لم يكن من الأقطاب، يبقى رئيسه الأول هو باسيل نفسه؟ وماذا سيحصل إذا ما تمّ استبدال علي حسن خليل باسمٍ آخر من "أمل" تبقى مرجعيّته الأساسيّة في عين التينة، ولو لم يكن من الأسماء المعروفة؟ وهل من يظنّ أنّ استبدال شقير مثلاً باسمٍ أقلّ استفزازاً، من الفريق المحسوب على رئيس الحكومة، يمكن أن يحلّ الأزمة؟!.

إذا كانت الكلمة للشارع، فالأكيد أنّ المطلوب، وبعيداً عن توظيف هذا الشارع من قبل بعض الأحزاب السياسية لتحقيق أجنداتها الضيّقة والخاصة، ليس الذهاب إلى تغييرٍ شكليّ، يشمل أسماءً بعينها، وكأنّ المطلوب إقصاؤها مهما كان الثمن، بل المطلوب هو تغييرٌ في المقاربة، يجب أن يُلمَس في أيّ تعديلٍ وزاريّ، بعيداً عن مبدأ المحاصصة، الذي رُصِد للمفارقة في النقاشات الجارية في الكواليس، مع ما سُرّب من طرحٍ أنّ استقالة أربعة وزراء مسيحيين يجب أن تُرفَق باستقالة أربعة وزراء مسلمين، حفاظاً على الميثاقية الطائفية، التي قد تكون أول ما نبذه الشعب في تحرّكاته.

الحراك مهدَّد؟!

قد يكون مجرّد البحث بتعديلٍ وزاريّ على شكل الحكومة الحاليّة، مكسباً للمتظاهرين في الشارع، مثله مثل الإقرار بأنّ الحكومة، التي كان البعض فيها يحتفل قبل أيام بما كان يسمّيها "إنجازاتٍ"، لم يشعر بها أحد، فشلت في تحقيق الحدّ الأدنى المطلوب.

ما كان لذلك أن يتحقّق لولا التظاهرات العفويّة التي شهدتها ساحات بيروت ومختلف المناطق على مدى أيام. بيد أنّ هذا المكسب لا يمكن أن يصمد إذا ما نجح البعض في اختراقه، لتحقيق مكاسب آنيّة، تعنيه على المستوى الشخصيّ، بعيداً عن مصلحة البلد.

الكلمة للشارع، نعم، والأخير لن يرضى بـ "المسكّنات" التي كانت تنفع في السابق، ولا بعمليات التجميل التي يلجأ إليها البعض بين الفينة والأخرى، لكن هناك ما هو أبعد من ذلك، هناك محاولات توظيف واستغلال يجب أن يتصدّى لها الشارع قبل كلّ شيء، حتى لا يصبح حراكه مهدَّداً من تحالف أهل السلطة نفسه، وعلى جري العادة...