لم يكن ممكناً لأحد أن يقف بوجه الحراك الشعبي في الأيام الثلاثة الاولى، حتى من كان ممتعضا منه، اذ كانت الصورة الجامعة التي انتشرت في الشوارع اكبر من أن تُنتقد، ولكن بعد هذه الايام الثلاثة اختلفت الصورة، فاستقال وزراء القوّات اللبنانية من الحكومة، ودعا الحزب التقدّمي الاشتراكي جمهوره للتظاهر، ونظّمت الكتائب اللبنانيّة صفوفها في تجمعات محدّدة.

حسنا، لنتحدث بواقعية بعيدا عن المشاعر، من يوجد في الشارع اليوم؟

لنبدأ من طرابلس، 20 الى 25 ألفا يتجمعون يوميا في ساحة النور تحت راية العلم اللبناني وأصوات الأغاني الوطنية وخطابات "الثوار" الذين انتقلوا من عالم الثورة الافتراضيّة على وسائل التواصل الى عالم أكثر واقعية، فمن هم هؤلاء المواطنين؟ من الظلم أن يُقال أن هؤلاء تابعين لسفارات أو أحزاب وشخصيّات شماليّة، نعم بعضهم ممن يقوم بحماية الساحة قد يكون على علاقة باللواء المتقاعد أشرف ريفي بحسب صورة انتشرت، ولكن لا يملك ريفي 25 الف مناصر ينشرهم في الساحات، اذا فهم خليط من مواطنين أحرار، وآخرين يتبعون لسياسات واضحة، وهنا التغطية الإعلاميّة مميّزة.

في الزوق وجل الديب والشيفروليه هتافات ضد حزب الله الإرهابي، وهذا الخطاب لا ينتج عن مواطن مسيحي مقهور، بل مناصر حزبي متحمس لقضيّته، وهؤلاء هم جمهور القوّات اللبنانية، وبعض الكتائب، والى جانبهم بعض المواطنين المسيحيين الذين لا ينتمون لحزب ويريدون مصلحة الوطن، وهنا أيضا التغطية الإعلامية مميّزة.

في بيروت يختلط الحابل بالنابل، أعداد غفيرة وصلت الى حوالي 250 ألفا في أكثر الأوقات حشدا، يسار وشيوعيون، منظمات مجتمع مدني كثيرة وعديدة، مواطنون متعبون مرهقون من الوضع الاقتصادي، لبنانيّون من بيئة الفريق الشيعي. كانت البدايات مميّزة، شعارات موحدة الا فيما ندر، وكان القيّمون على التنظيم أذكياء فلم يكرّروا الأخطاء الماضية، وكلما لاح ما يسيء لصورة الحراك، أوقفوه، كشرب الكحول والرقص وغيره. ولكن بعد الأيام الثلاثة الاولى بدأت الشعارات تختلف فباتت سياسيّة لدى البعض، ومطلبيّة لدى الآخرين. والتغطية الإعلاميّة مميزة.

في صيدا أغلب المحتجين هم ناخبو النائب أسامة سعد، مظلومو مدينة صيدا، بدأوا حراكهم بأمل، ووصل اليوم الى حدّ الملل، فتارة يُحمل سعد على الاكف وتارة يطرده أحد المشاركين، ولكن الصورة الجامعة للحراك تحافظ على جودتها، والتغطية الاعلامية عادية.

في النبطيّة وصور، قُدرت أعداد المتظاهرين بعزّ الحشد بـ10 آلاف متظاهر في المدينتين، بدأت الامور في صور في ليلة مظلمة اقتحم أصحاب السوابق المدينة وعاثوا فيها خرابا، فتصدت لهم قوى حزبية، وباتوا اليوم في عهدة مخابرات الجيش، ومن ثم باتت ​التظاهرات​ سلمية عند دوار العلم، شعاراتها مطلبية، مع نكهة سياسية، خصوصا وأن أغلب المتواجدين في صور والنبطية هم من الحزب الشيوعي، ولكن هذا لا يعني عدم وجود محبي آل الأسعد والخليل، كما نسبة لابأس بها من المواطنين الجنوبيين الذين لا ينتمون الى الأحزاب. وهنا أيضا التغطية الإعلامية مميزة خصوصا أنها في معقل الشارع الشيعي.

في زحلة وبعلبك لم يبدِ الإعلام اهتماما لانّ الحراك هناك لا يحمل أبعادا سياسية إطلاقا، وفي الجبل متظاهرو الاشتراكي يملأون الطرقات. ولكن ليست هذه الساحات وحدها التي تشهد احداثا بإسم "الثورة"، فالطرقات أيضا تشهد نوعين من الأحداث، الاول هو قطع الطرق من المعتصمين، والثاني قطعها من قبل العصابات الحزبيّة وغير الحزبيّة، ولعلّ إلقاء الضوء على هؤلاء بات حاجة، لكي لا يشوهوا صورة "الثورة".

بعد هذه النظرة يتبيّن ان الحراك يضم ثلاثة انواع من الناس: الثوار الحقيقيّون الذين يريدون الخروج من الظلم الحالي، ويسعون لبزوغ فجر جديد للبنان، وهؤلاء عبّروا عن ألمهم الحقيقي ويجب الاستماع إليهم. الأحزاب التي تسعى للانتقام السياسي من صورة العهد الحالي، وهنا لا يقصد بالعهد رئاسة الجمهورية بل التحالف الرباعي الذي يدير الدفّة، ويتلاقون باهدافهم مع رؤى خارجيّة. أحزاب وحركات اليسار التي تسعى لإيجاد مكان لها في المشهد الحالي.

إزاء هذا الواقع، بات لزاما على الحريصين على مشهد الناس في الشارع أنْ يبادروا فورا الى تشكيل لجنة تضم وجوها مقبولة من الناس الثائرة، تجلس على طاولة الحوار لتحصين الانجازات التي تحقّقت، وتسعى للمزيد، وبإمكانها ذلك، اذ تكشف مصادر "النشرة" أن الانفتاح على التعديل الحكومي بات موجودا لدى جميع الأطراف، ولا مانع من تمثيل الثورة الحقيقية بوزراء بالحكومة، على أن يتمّ ذلك وفق آليّة واضحة وكاملة، تعيد الهدوء الى البلد.

وتضيف المصادر: "اليوم باتت الكرة في ملعب الحراك، الذي عليه أنْ يفصل نفسه عن الذين يسعون لتنفيذ "موّالهم"، وينتشلوا حراكهم من براثنِ المطالب السيّاسية المشبوهة"، مشيرة الى أنّ "السلطة" لم تنفِ حقهم يوما، وهي على استعداد للتفاوض حول الاجراءات المطلوبة.

وتشير المصادر الى أنّ الشارع الذي يطالب بالفوضى والفراغ يقابله شارع أكبر انتخب نوابه في المجلس النيابي، ولا يحق لاحد حرمان هؤلاء من خياراتهم، وبالتالي فلتنتهِ لعبة الأرقام والشوارع والساحات، ولننهِ حالة الاستغلال التي تحصل، وليقدّم أصحاب الحراك الأوائل لجنتهم، بعيدا عن الاتّهامات المتبادلة.

لا يشكّ أحد بأنّ الأكثرية في الشارع تطالب بالحقوق والإصلاح، ولكن إنْ بقيت "الاكثريّة" صامتة فلن تتحقّق المطالب، واليوم بات الحراك أمام ساعات مفصليّة، فهل ينجح بعمليّة الفصل المطلوبة؟!.