انّ أخطر ما يُطرح اليوم في الحراك الشعبي العفوي.. بحسن نية، رفض السعي إلى تنظيم وبلورة لجنة من كلّ ساحات التظاهر للاتفاق على بلورة ورقة بالمطالب الاجتماعية والاقتصادية والإصلاحية التي تشكل الجوهر والأساس الذي دفع الناس من كلّ المناطق والطوائف للنزول إلى الساحات، بحيث تشكل أساس الحوار بين ممثلين عن المنتفضين والمسؤولين في السلطة السياسية.. يرى هذا الرأي انّ تشكيل لجنة وبلورة ورقة بالمطالب سوف يؤدّي إلى خلافات وانقسامات في الحراك لغياب الاتفاق على رؤية موحدة، وبالتالي من الأفضل أن يبقى الحراك من دون قيادة او هيئة تنسيق، وأنّ السلطة السياسية تعرف المطالب وعليها الاستحابة لها وإقناع الناس بأنها جادة في تنفيذها.. إنّ خطورة هذا الرأي تكمن في أنه لا يدرك انّ الساحة لا تقتصر على حركة الناس الأبرياء العفويين، وانّ أيّ حركة عفوية لا يمكن أن تصل إلى أهدافها التي خرجت من أجلها اذا لم ترتق بأدائها وتنتقل من العفوية الي امتلاك الوعي وتشكيل قيادة وبلورة برنامج.. وانّ تقديس العفوية في الحراك يتيح الفرصة للقوى الرجعية لاستغلال هذه العفوية والعمل على حرف الحراك الشعبي عن مساره وتوظيفه في خدمة أجنداتها السياسية.. وما يحصل بعد تسعة أيام من الحراك الشعبي يؤكد هذه الحقيقة حيث بات جزء من الشعارات والمطالب التي تطرح في الحراك لا يعبّر عن حقيقته.. فالدعوات التي تطالب بإسقاط العهد والتصويب على المقاومة وسلاحها وشخص قائدها السيد حسن نصرالله، ليست لها علاقة بالمطالب الاجتماعية والاقتصادية، وإنما تعبّر عن مواقف قوى سياسية قسم منها لا زال في السلطة وقسم آخر خارجها، وهذه القوى السياسية معروفة بأنها جزء من منظومة الفساد ولديها ارتباطات دولية وإقليمية وعربية رجعية معادية للمقاومة وتسعى لإحداث انقلاب في ميزان القوى في ​لبنان​ ضدّ خيار المقاومة والنهج الاستقلالي الذي ينتهجه الرئيس ميشال عون.. لهذا فإنّ تقديس العفوية وطرح الشعارات القصووية التي ترفض الاستفادة من الإيجابيات التي حققها الحراك، وترفض التجاوب مع دعوة رئيس الجمهورية للحوار مع وفد يمثل المنتفضين في الساحات، إنما يستهدف دفع الحراك الى الغرق في السلبية ومحاولة قطع الطريق على ايّ حلول للخروج من الأزمة.. كما أنّ بلورة إطار تنسيقي للحراك وتحديد المطالب يؤدّي إلى فصل المطالب الاجتماعية الاقتصادية والإصلاحية عن الشعارات والأهداف السياسية التي تطرحها بعض القوى التي تسعى الى دفع البلاد الي الفوضى والاطاحة بالسلم الاهلي وتقويض معادلة الجيش والشعب والمقاومة التي حرّرت الأرض من العدو الصهيوني ودحرت خطر الإرهاب التكفيري. من هنا فإنّ عدم الانتقال بالحراك من العفوية الي الانتظام في إطار تنسيقي وتحديد لائحة المطالب التي خرج الناس من أجلها منذ البداية، والذهاب الى الحوار مع السلطة لتنفيذ هذه المطالب، وبالتالي الضغط عبر الحراك السلمي لتنفيذ هذه المطالب، بعيداً عن قطع الطرقات وتعطيل الحركة الاقتصادية، انّ عدم الاتجاه في هذا المنحى الإيجابي إنما يخدم، من حيث لا يدري المنتفضون، القوى والأحزاب السياسية وبعض الاتجاهات التي لها مصلحة في إبقاء الحراك عفوياً سلبياً يرفض ايّ طروحات إيجابية للخروج من الأزمة، وفي نفس الوقت استخدامه منبراً لمحاولة تجيير الحراك في خدمة طروحاتها وأجنداتها السياسية.. لذلك هناك فرق كبير بين الثورة وبين الهبة الشعبية العفوية.. فالثورة تعني، الى جانب توافر الظرف الموضوعي المتفجّر، وجود قيادة وبرنامج يقدّم بديلاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً للحكم لمجرّد إقالة الحكومة، قادراً على منع انزلاق البلاد الى الفراغ والفوضى، والحيلولة دون انهيار في الوضعين المالي والاقتصادي وتفاقم معاناة الناس، وفي مقدّمتهم الذين نزلوا الى الساحات مطالبين بتغيير السياسات الحكومية الاقتصادية والاجتماعية التي أدّت إلى إفقارهم.. ولهذا فإنّ الحراك لم يبلغ مرحلة الثورة لأنه يفتقد إلى القيادة والبرنامج البديل.. فهل يعي المنتفضون هذه الحقيقة ويتخلوا عن التغني بالعفوية، حتى يتمّ تجنّب انجراف حراكهم من الوقوع في فخ المستغلين له…؟