لم يعد الشارع اللبناني يُجمع على جدوى المضي قدماً في التظاهر وقطع الطرق وشل البلد بالإضراب المفتوح. رغم أنها وسائل إعتراضيّة لرفع الصوت وفرض المطالب المحقّة، إلا أنّ لبنان إنقسم بين رأيين: الأول يدعو الى التجاوب مع الورقة الإصلاحيّة التي قدّمتها الحكومة، ومراقبة تطبيقها عبر تظاهرات ساحات محدّدة، وفرض قانون إنتخابي وطني يعتمد على إقتراح لبنان دائرة إنتخابيّة واحدة، ثم البدء بعمليّة الغاء الطائفية السياسية والذهاب نحو الدولة المدنيّة. بينما يرفض الرأي الثاني وهو المعارض أيّ حلول لا تقوم على أساس إسقاط الحكومة ومحاسبة السياسيين وإجراء انتخابات نيابية مبكرة.

لكل رأي أنصاره على مساحة لبنان. لكن أصحاب الرأي المعارض يواصلون نشاطاتهم المفتوحة، بدعم سياسي من قبل تيارين: "اليسار" و"اليمين". لا يعني ذلك أنّ كل المتظاهرين يتخندقون بين "يسار" و"يمين"، بل أن غالبيتهم هم لبنانيون غير مسيّسين يطمحون لغد أفضل، بعدما اتعبتهم الأوضاع السياسيّة والإقتصاديّة. ولا يعني ايضاً أنّ اصحاب الرأي الأول هم تيار الوسط.

يقوم كل من "اليسار" و"اليمين" بتوظيف أوجاع الناس، وإستثمار إحتجاجاتهم لتصفية حسابات سياسيّة: يحقد "اليسار" على أحزاب السلطة التي اقصته عن المشهد السياسي منذ وضع إتفاق "الطائف". ويتحيّن من جهة ثانية حزبا "القوات" و"الكتائب" الفرصة للإنقضاض على حزب "العهد" التيار "الوطني الحر".

يوحي كل الحراك أن "اليسار" الذي بان نشاطه تحديدا في صور والنبطية وبيروت أنه يسعى لفرض نفسه، بعدما حاول ركب كل الموجات منذ إستقالته من المقاومة، لكنه لم ينجح. سبق وان حاول الوصول الى المجلس النيابي لكنه فشل مرّات عدة، وغاب ذكره عن اللبنانيين، وتوزّعت كوادره بين التيّارات السياسيّة، فغذّى "الحريريّة" منذ انطلاقتها بالمفكّرين والإعلاميين، كما رفد الجمعيّات التي تنال تمويلاً غربياً. يسعى "اليسار" اليوم الى فرض نفسه في المعادلة الشعبيّة ومحاولة الإنسجام مع "إنتفاضة" شعبيّة لإعادة إستنهاض كوادره. هل ينجح؟ قد يصطدم بمسار "اليمين" الذي يركب معه موجة الحراك الآن. لكن، في الشكل يستعيدان تاريخاً لبنانياً عتيقاً، بوجود "اليسار" في الجنوب وبيروت، ووجود "اليمين" في جبل لبنان الشمالي.

جمعهما العلم اللبناني في المظهر، وإسقاط الحُكم في الجوهر. لكن ماذا بعد؟.

هل يرضى "اليسار" بأجندة "اليمين"؟ هل يتوحّدان حول قانون انتخابي؟ كيف ينظران الى سلاح "حزب الله" (المقاومة)؟ ماذا عن ادوار الخارج؟ هي أسئلة جوهرية، لا تُلغي رسم كلاهما سيناريوهات عن المرحلة المقبلة. واذا كان هناك من يظن ان شخصيات يساريّة عدّة أصبحت تنسجم مع التوجّهات الغربية، بدليل مقاربة الأزمة السوريّة بالإنحياز الى "الربيع العربي" الذي سقط في دمشق، فإن يساريين لا يتقبّلون ان يفرض "اليمين" رأيه لا بالعناوين ولا التفاصيل اللبنانيّة. لا يعني ذلك اننا مقبلون على قواعد اشتباك سياسية ولا ميدانية جديدة.

ان مطالبة كل من "اليسار" و"اليمين" بسقوط الحكومة، لا يعني الإتفاق بينهما على مقاربة أيّ مرحلة مستقبليّة، لا بالمعارضة ولا بالموالاة. اساساً، هناك من لا يسمح لهما بالتفرد في توجيه الشارع. فليرصد الشعب تلك الجمعيّات التي تدير عن قرب وعن بعد منصّات الإعتراض. بمجرد جولة واحدة في وسط بيروت، بين ساحتي رياض الصلح والشهداء، يتظهّر في العمق انقساماً بين "اليسار" و"مقاومة مدنيّة" وخيم باقي المعترضين. بينما يتموضع "اليمين" في مناطق مسيحيّة، لأنّه لا تواجد ولا قدرة له على التواجد في مناطق أخرى.

كل ذلك يجري، بينما لا يعني للبنانيين لا "اليسار" الحاقد على كل الأحزاب التي يظن انها ابعدته عن السلطة، ولا "اليمين" الناقم على التيار "الوطني الحر". هموم اللبنانيين معيشيّة واقتصاديّة ووطنيّة، بينما همّ "اليسار" و"اليمين" مصالح ذاتيّة تتّخذ المواطنين مطيّة للعبور الى المطامع السلطويّة.