عشرة أَيَّام وأَنا أَستمع إِلى "الثُّوار" في كلٍّ احترامٍ، وأُركِّز في إِصغائي على شأْنٍ واحدٍ: قطع الطُّرق أَمام المواطنين. ولقد رصدتُ النَّقل المباشر لإِحدى القنوات التِّلفزيونيَّة المحليَّة، السَّبت 26 تشرين الأَوَّل 2019، من الأُولى بعد الظُّهر وحتَّى الرّابعة إِلاَّ ثُلثًا.

لكنَّني ومع تفهُّمي ودعمي الكامل للمطالب الوطنيَّة الجامعة المرفوعة من "الثُّوَّار"، لم أَستوعب قطّ المنطق القائِل بمنع المريض من الوصول إِلى المستشفى، والموظَّف المُعتاش مِن وظيفته، مِن أَنْ يقصد مكان عمله، وصاحب المؤَسَّسة المُعيلة لعشرات العائِلات من أَن يفتح مؤَسَّسته ويؤَمِّن رواتب آخر الشَّهر...

وأَمَّا من النَّاحية القانونيَّة والخلقيَّة، فإِنَّ "الثُّوَّار" لا يؤمنون بأَنَّ حقَّ التَّظاهر المقدَّس، يقابله حقٌّ مقدَّسٌ آخر وواجبٌ أَيضًا: الحقُّ المقابل هو حقُّ اللُّبنانيِّ في التَّجوُّل في وطنه، وواجب أَنْ يقف المواطن على حدود عدم التَّعدِّي على الآخر، فيما قطع الطُّرق يُعدُّ من الاعتداءات بامتيازٍ!. وأَمَّا مهمَّة ​الجيش​ فهي واضحةٌ: حفظ حقَّ التَّظاهر من جهةٍ، وحقِّ اللُّبنانيِّ في التَّجوُّل في وطنه من جهةٍ أُخرى، فيما كان منطق الثُّوَّار الَّذين يقطعون الطُّرق (خلال فترة الرَّصد التِّلفزيونيِّ المُشار إِليها أَعلاه) على الشَّكل الآتي:

-"قرطة زعران بالحكم ولا أَستثني أَحدًا" (الشِّيفروليه): جدلٌ عقيمٌ فعبارة "كلُّن يعني كلُّن" يعتبرها البعض الآخر تضليلاً للنَّاس، وتعميمًا للفساد يستفيد منه الفاسدون فقط...

-"ما يحطُّوا الجيش بوجه ​العالم​" (الشِّيفروليه): وهذا ما تقوله غالبيَّة الثُّوَّار حين يصطدمون بمن لا يوافقهم الرَّأْي، فيعتبرون أَنَّ واجب الجيش أَن يقمع من يطالب بفتح الطَّريق ويحمي من يريد إِقفاله... وهو منطق اللا منطق!...

-"الشَّعب جابُن وهلَّق ما بدُّو ياهن" (جسر الرِّينغ): كلمة الشَّعب فضفاضةٌ هنا بخاصَّةٍ وأَنَّ وكالة "​رويترز​" أَفادت الخميس الفائت، أَنَّ المُتظاهرين لا يتعدَّون في أَفضل الحالات المليون و200 ألف متظاهر من أَصل أَكثر من أَربعة ملايين أَي حوالي ربع الشَّعب...

-"بدنا الشَّعب يوعى وينزل" (جسر الرِّينغ): ما دام الثُّوَّار يعتبرون نفسهم "كلَّ الشَّعب"، فعلى مَن يقطعون إذًا الطَّريق؟، وعلى من يضغطون للنُّزول إِلى الشَّارع؟...

-"نحنا بصور أَكتر ​تظاهرة​ لم تَحدث فيها مشاكل" (صور): لا تعليق...

- "بدِّي آكل ما معي... بدِّي إِشتري دوا وما معي... بدِّي حلّ" (مُسنٌّ في رياض الصّلح) ولو كان الثُّوَّار عادلين، لاختاروا هذا الرَّجل شيخًا لثورتهم وزعيمًا لهم، فهو الأَصدق والأَنبل والأَكثر شفافيَّةً والأَحقُّ في العيش الكريم بعد عقودٍ من العطاء... هو الصَّوت الأَعلى على رغم رجفته، والأَفعل بفضل دمعته الصَّادقة المُفعمة بالعنفوان...

- "منطلب من المفتي والبطريرك إِنُّو يجبروا ​الحكومة​ على تأْمين العمل للشَّعب" (طرابلس): فيما يتَّهم آخرون رجال الدِّين بحماية الفاسدين لأَسبابٍ طائفيَّةٍ، ويدعو غيرهم إِلى الدَّولة المدنيَّة، وغيرهم إِلى إِلغاء الطَّائفيَّة السِّياسيَّة، ويرفض غيرهم الزَّواج المدنيَّ... إِنَّه تباينٌ كبيرٌ في هذا الشَّأن بين "الثُّوَّار"، ولا رؤية واحدةً، كما وينسحب الأَمر على الكثير من المَسائل المطلبيَّة الثَّوريَّة الأُخرى...

-"رئيس الجمهوريَّة إِسمو السَّيِّد حسن، ورئيس الحكومة إِسمو ​جبران باسيل​" (طرابلس): أَين المطالب المعيشيَّة في ذلك؟ وكيف لا يُدرج هذا المطلب في خانة الثَّورة السِّياسيَّة لا المعيشيَّة–الاجتماعيَّة؟...

- "جبران باسيل عم يعطي جنسيَّات للنَّاس البرَّا وما بيعطي جنسيَّة للنَّاس اللِّي هون" (طرابلس): هل المطلوب منح اللاجئِين و​النازحين​ جنسيَّاتٍ ​لبنان​يَّةً؟ أَم منح أَبناء الوالدة اللُّبنانيَّة المُتزوِّجة من غير لبنانيٍّ؟ في مطلق الأَحوال فإِنَّ القرار ليس لدى الوزير جبران باسيل... وهنا لا بدَّ من تسجيل أَنَّ الحملة على الوزير باسيل ما زالت تأْخذ المنحى التَّصاعديَّ، وصولاً إِلى إِطلاق شعار: "النَّازح جوَّا جوَّا وباسيل برَّا برَّا"!...

- إِلى المحطَّة التّلفزيونيَّة الَّتي رصدتها): "أَنتم كلاب السُّلطة" (الرِّينغ): يا ليت الإِعلام كان مع السُّلطة، لكان أَوقف النَّقل المباشر ليوميَّات "الثَّورة"، وجنَّب مشاهديه ارتفاع ضغط الدَّم والجرائم الخلقيَّة الصَّادرة عن بعض "الثُّوَّار"!...

- "إِنتو محطَّات التِّلفزيون آخدين مصاري من الإِسكان وعم تلعبوا بالدُّولار"... (النَّبطيَّة): معلوماتٌ خاطِئة وافتراءٌ ينمُّ عن جهلٍ...

- "صاحب السَّيَّارة يللي بدُّو يمرق هو ميشال طيَّار وهو مسؤول في التيَّار الوطني الحر" (الشِّيفروليه): هل بات المواطن عندنا يُحاسب بسبب انتمائه الحزبيِّ؟ وهل بات "التيَّار الوطنيُّ الحرُّ" من الأَحزاب المُنحلَّة في لبنان؟ واستنادًا إِلى ماذا؟ وهل من مبرِّرٍ لقطع الطَّريق أَمام من لا يوافق "الثُّوَّار" مبادرتهم إِلى قطع الطُّرق؟...

وتكتمل المشهديَّة بجدلٍ نسائيٍّ على طريق "الشِّيفروليه"، بين سيِّدةٍ مضطرَّةٍ إِلى التَّجوُّل في سيَّارتها وأُخرى تسأَلها: "هل أَنت مع السِّلاح الشَّرعيِّ أَم مع سلاح المُقاومة"؟... (ما دخل ذلك في المطالب الَّتي يُقال عنها إِنَّها معيشيَّة؟)...

وتتنطَّح سيِّدةٌ أُخرى لتقول: "إِنَّها تضع في سيَّارتها علمًا للجيش اللُّبنانيِّ لتعبر الحواجز" (هل بات رفع العلم اللُّبنانيِّ في السَّيَّارة تهمةً؟)...

وتقول ثالثةٌ: "ما تحطُّوا الجيش بطريقنا حرام عليكن" (هل المطلوب أَن يتفرَّج الجنود البَواسل على مخالفاتٍ مبنيَّة على اللا وعي واللا إِدراك؟)...

لقد تمَّ لهم ما أَرادوه: فكلُّ ذلك كان يُجرى أَمام أَعين الجيش الَّذي ظلَّ متفرِّجًا على الجدل النِّسائيِّ العقيم!.

الأَنكى من كلِّ ذلك أَنَّ قوى مكافحة الشَّغب حين تدخَّلت حوالي السَّاعة الثَّانية و27 دقيقة بعد الظُّهر، ل​فتح طريق​ "الرِّينغ" علا الصُّراخ "سلميَّة... سلميَّة..." في إِشارةٍ إِلى قطع الطُّرق. فالشَّتائم تُطلق سلميًّا، وانتهاك الكرامات وقطع الطُّرق وتدنيس ​كنيسة مار جرجس​ في الجمَّيزة بالشَّتائم المكتوبة على الجدران مع رموزها اللا خلقيَّة... كلُّ ذلك يدخل في نطاق منطق "السَّلميَّة... السِّلميَّة...".