لم يحقّق ​الحراك الشعبي​ المستمرّ منذ 12 يوماً أهدافه الكبرى المُعلَنة بعد. لا استقالة للحكومة مطروحة حتى الآن، ولا ​انتخابات​ نيابية مبكرة على الأجندة السياسيّة، بل إنّ التغيير الوزاريّ الذي ارتفعت أسهمه الأسبوع الماضي، يبدو مُستبعَداً حتى إشعارٍ آخر.

مع ذلك، يمكن القول إنّ الحراك الذي يُعَدّ غير مسبوق في ​الحياة​ السياسية اللبنانية، وبمُعزَلٍ عن الاتّهامات التي باتت تُوجَّه لبعض مكوّناته وقواه، حقّق بعض النتائج أو "الثمار"، قد تكون الورقة الإصلاحيّة التي أقرّتها ​الحكومة​ أولها، وإن رأى كثيرون أنّها تعاني من نواقص كثيرة، فضلاً عن كونها تبقى حبراً على ورق حتى يثبت العكس، بناءً على التجربة اللبنانية.

بيد أنّ "ثمرة" أخرى لا تقلّ أهمية، رُصِدت في الأيام الماضية شكّلت مفارقة لافتة، إذ إنّ من نتائج الحراك بروز انقسامات داخل أحزاب ​السلطة​، بما فيها الأحزاب التي لطالما "حُسِدت" على قوتها التنظيميّة الهائلة. وإذا كانت "أضرار" هذه الانقسامات لا تزال محدودة، إن وُجِدت، فإنّ دلالاتها أكثر من أن تُعَدّ أو تُحصى...

صراع "أجنحة"؟!

لم يعد مُبالَغاً به الحديث عن "صراع أجنحة" داخل معظم أحزاب السلطة، أو الأحزاب التي لا تزال "صامدة" في الحكومة، وإن كان هذا "الصراع" يتفاوت من حيث الحجم، بين حزبٍ وآخر، أو فريقٍ وآخر.

ولعلّ أكثر مشاهد هذا الصراع وضوحاً حضرت داخل "​التيار الوطني الحر​"، أو بمعنى أدقّ داخل تكتل "​لبنان القوي​"، الذي خسر نائبين من أعضائه، هما ​شامل روكز​ ونعمة أفرام، بعدما فضّلا "الاستقلالية" والخروج من عباءة التكتل، والالتحاق بركب "​الثورة​"، بشكلٍ أو بآخر.

وإذا كان أفرام مهّد لهذا الخروج عند انضمامه إلى المعتصمين قبل أيام، فإنّ انسحاب روكز طغى عليه من حيث الأهمية، ربما للرابط "العائلي" الذي يجمعه ب​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​، ولاعتباره من قبل كثيرين "منافساً مباشراً" لوزير الخارجية ​جبران باسيل​ على "الزعامة".

بيد أنّ الأهمّ من ذلك أنّ روكز، الذي لطالما "تمايز" عن باسيل في الأداء السياسيّ، خصوصاً في أعقاب ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة، وهو ما أدّى إلى مقاطعته اجتماعات التكتل على خلفية التباين في مقاربة موازنة 2019، نجح في حشد مؤيّدين له من داخل عائلة الرئيس عون نفسه، وهو ما تجلّى في بعض المواقف المنسوبة لابنتي رئيس الجمهورية، كلودين وميراي، والتي وُضِعت في مواجهة باسيل.

ويبدو رصد ​وسائل التواصل الاجتماعي​ كافياً لتأكيد وجود مثل هذا الصراع، في ضوء "الحملات" التي شنّها مناصرون لباسيل على روكز، وعلى آخرين من خلفه، والتي تمّ فيها مزج السياسيّ بالشخصيّ، تارةً عبر اتهامه بـ"الغدر"، وطوراً عبر مساواته بـ"الفاسدين"، بل ربط انسحابه بقرار التكتل رفع ​السرية المصرفية​ عن حسابات أعضائه، ما دفع كثيرين للتساؤل عن خلفيّات هذه "النقمة"، وأين كانت كلّ هذه "التحفّظات" عليه قبل انسحابه من التكتّل.

بين "​حزب الله​" و"المستقبل"...

وإذا كان الانقسام داخل "التيار الوطني الحر" على خلفيّة التحرّكات الاحتجاجيّة وجد "دلائل" واضحة من خلال انسحاب روكز وأفرام من "لبنان القوي"، فإنّ الوضع داخل باقي أحزاب السلطة الأساسيّة لا يبدو أفضل حالاً، وإن لم يؤدّ حتى الآن إلى استقالةٍ من هنا أو اعتكافٍ من هناك.

ففي تيار "المستقبل"، حزب رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ نفسه، يبدو الضياع سيّد الموقف، إسوةً ربما بحالة الارتباك التي يعيشها الحريري نفسه، الذي لم يحسم بعد الوسيلة المُثلى للتعاطي مع ​الاحتجاجات​، في ظلّ تلويحه المتكرّر بالاستقالة، التي تبقى الخيار الأصعب بالنسبة إليه. ولعلّ خير معبّر عن هذا "الصراع" يتمثّل في خروج الكثير من "أقطاب" التيار "الأزرق"، أو المحسوبين عليه، لنُصرة "الثورة"، وبين هؤلاء رئيس الحكومة الأسبق ​فؤاد السنيورة​ نفسه، مع أنّ اسمه شخصياً يحضر على ألسنة الكثير من المتظاهرين المطالبين بـ"المحاسبة".

ويمكن القول إنّ بيئة "المستقبل" تعيش هذا الصراع، فهي قلباً مع المتظاهرين الغاضبين، بل تذهب إلى الاعتقاد بأنّ هذه الثورة تكاد تكون "طوق النجاة" الذي سيحرّر الحريري من القيود المفروضة عليه بموجب ​التسوية الرئاسية​، وهي قالباً مع الحريري، وترفض أن يكون "كبش فداء" في مكانٍ ما، أو أن تقتصر "الثورة" على إسقاط حكومته، كما يحاول البعض أخذ الأمور، انطلاقاً من "خطوط حمراء" يتمّ رسمها في الخفاء.

وتشترك بيئة "حزب الله" بشكلٍ أو بآخر مع بيئة "المستقبل" في مقاربة الاحتجاجات، خصوصاً أنّها تُصنَّف في نظر كثيرين من الأكثر حرماناً وفقراً، ما يجعلها تلقائياً جزءاً لا يتجزّأ من أيّ "ثورة" على ​الفساد​، الذي عانت ولا تزال تعاني منه الأمرّين. وقد ترجِم هذا الأمر بوجود ناشطين ينتمون إلى هذه ​البيئة​ على الأرض منذ اليوم الأول لـ"الثورة"، بل بصمود بعض هؤلاء، وإن اختار آخرون الانكفاء بعد الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" ​السيد حسن نصر الله​، وما تضمّنه من "تشكيك" بالحدّ الأدنى بأهداف الحراك ومصادر تمويله.

وإذا كان كثيرون في بيئة "حزب الله" قبل خارجها يتفهّمون حرص الحزب على استمرار الحكومة، لكونها تشكّل "غطاءً" له في مواجهة العقوبات المفروضة عليه، فإنّ ثمّة كثيرين أيضاً لا يتفهّمون إصراره على أن يكون "حامي الفاسدين"، بشكلٍ أو بآخر، من خلال المواقف القاسية والمتقدمة التي يطلقها في مواجهة حراكٍ يدرك قبل غيره أنّه لم ينطلق سوى من شعور المواطنين بالظلم. ويرسم هؤلاء علامات استفهام أكثر عن سبب ذهاب الرجل إلى حدّ "تخوين" الحراك، من دون تقديم أيّ دليلٍ حسّي على كلامه، وهو الذي يطلب "الأدلة" على "فساد" بعض المسؤولين، من "الثابتين" في الحكم منذ عقودٍ...

ما بعد "الثورة"

ينطبق ما سبق على سائر أحزاب السلطة، ولا سيما حركة "أمل" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​" و"​تيار المردة​".

فرغم "الخصوصية" التي تتمتّع بها هذه القوى باعتبارها معارضة لـ"العهد"، وجدت نفسها في موقفٍ لا تُحسَد عليه: جمهورها منخرطٌ بشكلٍ أو بآخر في الحراك، فيما تتحكّم بقياداتها حساباتٌ أخرى، كان النائب السابق ​وليد جنبلاط​ أكثر من عبّر عنها بوضوح.

لكن، بمُعزَلٍ عن كلّ ذلك، وإذا كان الانقسام داخل الأحزاب ظاهرة صحّية في مكانٍ ما، ثمّة من يؤكد أنّ ما بعد "ثورة تشرين" لن يكون كما قبلها، أياً كانت النتائج التي ستفضي إليها الاحتجاجات، بل إنّ الندوب التي بدأت بتركها على أكثر من مستوى، في النفوس قبل النصوص، تبقى أقوى من أيّ شيءٍ آخر...