على وقع الانتفاضة الشعبية التي شهدتها البلاد، منذ السابع عشر من شهر تشرين الحالي، وحالة الغموض القائمة على المستوى السياسي، فتحت الكلمة التي توجها ​رئيس الجمهورية​ العماد ​ميشال عون​، في الذكرى الثالثة لانتخابه، الباب للإجابة عن الكثير من الأسئلة التي تعتري ال​لبنان​يين، خصوصاً أن المرحلة الراهنة قد تكون هي الأصعب منذ سنوات طويلة.

في كلمته التي توجه بها إلى المواطنين، سعى رئيس الجمهورية إلى تقديم ما يشبه "كشف حساب" بما التزم به في خطاب القسم، وما تحقق وما زال يعمل على تحقيقه، لكن الأهم هو أن الرئيس عون يدرك أهمية ما لم يتحقق حتى الآن، بالإضافة إلى التعهد بالعمل على تحقيقه في المرحلة المقبلة، مع ضرورة التشديد على أن كل ذلك لا يعني تجاهل تركيبة النظام السياسي في لبنان، خصوصاً لناحية الصلاحيات التي يتمتع بها موقع ​رئاسة الجمهورية​ بعد ​اتفاق الطائف​. وفي حين لا يزال الكثير من اللبنانيين يطرحون علامات استفهام حول شكل ​الحكومة​ المقبلة، بعد استقالة ​حكومة سعد الحريري​ الثالثة، قدم رئيس الجمهورية ما يشبه الشروط غير المباشرة، انطلاقاً مما واجه الحكومة السابقة من عراقيل على مستوى عملها، الأمر الذي يستدعي التوقف عنده مطولاً، حيث أشار إلى أن المقاربات فيها كانت سياسية أكثر مما هي تقنية وتنفيذية، في حين حال شرط الاجماع الذي اعتمده البعض دون التوصل إلى الكثير من القرارات الضرورية.

وانطلاقاً من هذا التوصيف، حدد الرئيس عون شرطاً أساسياً ينبغي أن يتوفر في الحكومة المقبلة، وهو أن تلبي طموحات اللبنانيين وتنال ثقتهم أولاً ثم ثقة ممثليهم في البرلمان، وبالتالي يجب أن يتم اختيار الوزراء وفق كفاءاتهم وخبراتهم وليس وفق الولاءات السياسية أو استرضاء للزعامات، في مؤشر إلى ما عبّر عنه رئيس الجمهورية، في نهاية خطابه، بشكل واضح، لناحية وصول الرسالة التي سعى المواطنون الذين شاركوا في التحركات الشعبية إلى إيصالها على مدى الأيام السابقة، وهو ما كان أكد عليه في رسالته السابقة إلى اللبنانيين، لكن مع استقالة الحكومة الحالية قد يكون الباب فتح بشكل أفضل إلى ترجمة هذه الرسالة بشكل عملي، لناحية تشكيل حكومة تعيد ثقة المواطنين بدولتهم. على الرغم من ذلك، لا يمكن القول إن رئيس الجمهورية حدد شكلاً معيناً لحكومة العهد الثانية، حيث كان يعتبر أن الحكومة السابقة هي الأولى، سواء كانت تكنوقراط أو وحدة وطنية أو سياسية من لون واحد، لكن في المقابل كان من الواضح أن الرئيس عون يريد أن تنطلق بشكل سريع إلى العمل، وبالتالي من المفترض أن تكون منسجمة وقادرة على الإنتاج بعيداً عن الصراعات السياسية، الأمر الذي لا يمكن فصله عن مواصفات الوزراء المذكورة في الأعلى.

بالتزامن، لا يمكن فصل تشديد الرئيس عون بالمضي في الحرب على الفساد، وهو العنوان الذي لا يبتعد عن المطالب التي رفعت في التحركات الشعبية، إلا أن رئيس الجمهورية دعا المواطنين إلى مساندته في هذه المعركة، عبر الضغط على النواب لإقرار قوانين انشاء ​محكمة​ خاصة بالجرائم على ​المال​ العام، والهيئة الوطنية ل​مكافحة الفساد​، واسترداد الاموال المنهوبة، ورفع الحصانات و​السرية المصرفية​ عن المسؤولين الحاليين والسابقين وكل من يتعاطى المال العام، بالتزامن مع قيام سلطة قضائية مستقلة وشجاعة ومنزهة. من ناحية أخرى، فتح رئيس الجمهورية الباب أمام نقطة قد تكون مفصلية، في حال النجاح فيها، تتعلق ببناء دولة مدنية حديثة تنتفي فيها الطائفية و​المحاصصة​، خصوصاً أن الجميع يعلم أن تركيبة النظام الطائفي هي التي تحول إلى حد بعيد دون تحقيق مبدأ المحاسبة، لا بل هي قد تكون الباب الأول نحو الفساد الذي نخر ​الدولة اللبنانية​. وقد كان واضحاً أن الرئيس عون يؤمن بهذا التوجه، من خلال دعوته المواطنين إلى أن يكونوا إلى جانبه لإطلاق ورشة مشاورات وطنية حول ​الدولة المدنية​، لإقناع من يجب اقناعه بأهميتها وضرورتها، لأنها خشبة الخلاص للبنان من تركة الطائفية ومشاكلها.

بناء على ما تقدم، يبدو أن رئيس الجمهورية، على الرغم من تلميحه إلى أن لبنان يدفع اليوم ثمن رفضه إبقاء ​النازحين السوريين​ على أرضه، يريد الاستفادة من الانتفاضة الشعبية في الشارع، كي تكون ورقة ضغط على مختلف القوى السياسية لتحقيق إنجازات نوعية، بحسب ما ورد في كلمته، خصوصاً على المستوى الاقتصادي، في ظل قناعته بأن ​الأزمة​ المفصلية التي تمر بها البلاد الخروج منها ليس بالأمر المستحيل. في المحصلة، لم يكتف الرئيس عون في كلمته بـ"كشف الحساب" عن السنوات الثلاث الماضية، بل قدم خارطة طريق تعهد الالتزام بها في النصف الثاني من ولايته، لكن العبرة تبقى في القدرة على التنفيذ، والتي ستظهر سريعاً في حال النجاح في حكومة تستطيع الفوز بثقة اللبنانيين قبل ثقة ​المجلس النيابي​.