إستقالة رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ من دون أي تنسيق مسبق مع الحلفاء، أدخلت لبنان في مرحلة سياسية حديدة. هذه الإستقالة المنفردة إذا صح التعبير، قامت بإنهاء المعادلة التي عمل بها جراء التسوية الرئاسية بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، وفتحت الباب أمام مختلف السيناريوهات، من دون أن يتم الحسم بأي منها حتى الآن خصوصا بأن رئيس الحكومة المستقيل لم يعمد الى ترتيب الاوضاع قبل الإقدام على هذه الخطوة.

لاشك بأن هذه الاستقالة جاءت تلبية لدعوات المتظاهرين الذين طالبوا باستقالة الحكومة الحالية وبتشكيل حكومة تكنوقراط غير سياسية تقوم بإخراج البلاد من الازمة الاقتصادية.

قبل الحديث عن امكانية تحقيق هذا المطلب وتشكيل حكومة غير سياسية لا بد من التطرق الى العوامل التي أدت لإندلاع الاحتجاجات والى شل البلد لأكثر من ١٣ يوما:

الى جانب التظاهرات العفوية التي تمت من قبل قسم من الشعب اللبناني الذي ضاق ذرعا بالسياسيات غير المجدية، وإنتفض أخيرا في وجه الفساد المستشري منذ اكثر من ثلاثين عاما، يجب القول بأن هناك عوامل خارجية وداخلية ساهمت في تأجيج هذه الاحتجاجات وهو ما ادى لاحقا الى حرف المطالب المحقّة عن هدفها الأساسي وإدخال الحراك الشعبي العفوي في اللعبة السياسية:

فبالنسبة للعوامل الخارجية لا شك بان خطاب رئيس الجمهورية ميشال عون في الامم المتحدة وتصريحات وزير الخارجية جبران باسيل اثارت تخفظات وإمتعاض بعض الدول المؤثرة اقليميا، خصوصا فيما يخص سلاح حزب الله وازمة النازحين السوريين... هذا الامتعاض أدى الى تحريك بعض الملفات من اجل الضغط على لبنان والأزمات المفتعلة والمضخمة بشأن البترول والدولار والطحين التي كانت قد سبقت الاحتجاجات بأيام قليلة، تدل بشكل واضح على ذلك، ناهيك عن الحرائق الهائلة التي أشعلت لبنان بين ليلة وضحاها، والتي يرجح ان تكون مفتعلة بهدف تسليط الضوء على عجز الدولة حتى في حماية الناس وممتلكاتهم من خطر الحرائق.

اما بالنسبة للعوامل السياسية الداخلية فمن المعلوم بان هناك جهات سياسية ممتعضة كثيرا من اداء وزير الخارجية "المستبد" بحسب تعبير النائب السابق وليد جنبلاط. ولا يخفى على احد بأن أعداء الوزير جبران باسيل هم كثر خصوصا بعد سقوط اتفاق معراب وبعد حادثة قبر شمون الأليمة. هذه العوامل دفعت الفرقاء الممتعضين من تصرفات باسيل الى ركوب موجة الاحتجاجات في محاولة لاسقاطه في الشارع بعد ان عجزوا عن اسقاطه في السياسة.

في ظل هذا المشهد السياسي المتناقض وبغض النظر عن الحراك الشعبي، لا بد من القول بأن تشكيل حكومة تكنوقراط في لبنان اصبح منذ اتفاق الطائف بالأمر الصعب اذا لم نقل بالمستحيل.

وحتى اذا تم تشكيل هذا النوع من الحكومات فهناك اسئلة كثيرة تطرح حول عملها المستقبلي وذلك من وجهة نظر دستورية. فمن المعروف بانه بموجب اتفاق الطائف انتزعت الصلاحيات المهمة ااتي كانت تعود لرئاسة الجمهورية وتم تحويلها الى مجلس الوزراء مجتمعا.

في هذا السياق حددت المادة ٦٥ من الدستور اللبناني وبشكل واضح هذه الصلاحيات. فعلى سبيل المثال يعود لمجلس الوزراء وضع السیاسة العامة للدولة في جمیع المجالات بالإضافة الى عدد من الصلاحيات نذكر منها على سبيل المثال: تعديل الدستور، إعلان حالة الطوارئ والغاؤها، الحرب والسلم، التعبئة العامة، الاتفاقات والمعاهدات الدولیة، إعادة النظر في التقسیم الإداري، حل مجلس النواب، قانون الانتخابات، قانون الجنسیة، قوانین الأحوال الشخصیة.

يتبين اذن من نص المادة المذكورة بأن مجلس الوزراء يتمتع بصلاحيات واسعة يمكن اذا استعملت ان تؤدي الى تغيير جذري في النظام اللبناني وذلك على جميع الأصعدة.

في المقابل يجدر القول بان هذا النظام يقوم أصلا على التمثيل الطائفي وذلك من اجل حفظ حقوق جميع الطوائف لا سيما الاقلية منها. وبما ان العادة درجت في لبنان على تشكيل حكومات وحدة وطنية تتمثل فيها جميع الطوائف، فإن قرارات الحكومات السابقة كانت تحظى مبدئيا بغطاء سياسي من قبل الاحزاب الرئيسية وبالتالي من قبل الطوائف. اما في حالة تشكيل حكومة إختصاصيين فالسؤال الاول الذي يطرح نفسه هو كيف سيتم إختيار الوزراء وهل ستكون تسميتهم مبنية على أساس حزبي او طائفي ام ان اختيارهم سوف يتم استنادا الى مؤهلاتهم العلمية وخبراتهم بغض النظر عن انتمائهم؟ وفي حال افترضنا انه سوف يتم تسمية وزراء من دون الاخذ بعين الاعتبار انتمائهم الطائفي والحزبي فلا شك بأن هذا الامر سيكون بمثابة تطور نوعي في الحياة السياسية في لبنان. ولكن في هذه الحالة هناك علامات استفهام كثيرة ايضا: فكيف لوزراء تكنوقراط ان يقوموا باتخاذ قرارات كبيرة ومصيرية كتلك التي حددتها المادة ٦٥ من الدستور وهم اصلا غير تابعين أو مغطين من احزاب معينة او من طائفة معينة.

وإذا شكلت، لا شك بأن المحطة المهمة الاولى التي ستواجه حكومة التكنوقراط هو البيان الوزاري. ففي الحكومات السابقة كان موضوع سلاح المقاومة في البيان الوزاري هو محط مد وجزر بين مختلف القوى السياسية. فكيف سيتعامل الوزراء التكنوقراط مع هذا الأمر؟. في المقابل هل سيقبل فريق ٨ اذار ومن معه وهم الذين يشكلون اغلبية المجلس النيابي بتسليم وزراء تكنوقراط مستقيلن زمام السلطة ومفاتيح البلد؟ هل ستقبل الاغلبية النيابية بتسليم كل هذه الصلاحيات الواسعة لوزراء مستقلين دون الحصول على تطمينات جدية وهم الذين يعتبرون نفسهم مستهدفين داخليا وخارجيا؟.

تبقى هذه الاسئلة معلقة الى حين اتضاح الصورة السياسية اكثر فاكثر، الا انه من المؤكد بأن سيناريو تشكيل حكومة غير سياسية ليس بالامر السهل، وهو سيكون محط شد حبال بين مختلف الاطراف السياسية.

يمكن ان يكون المخرج بقيام الاحزاب السياسية بتسمية وزراء اختصاصيين معروفين بانتمائهم الحزبي وتشكيل حكومة تكنو-سياسية ولكن وفي هذه الحالة كيف سيكون رد الشارع والاطراف السياسية التي تحرك قسما منه؟.

في المحصلة، خيار تشكيل حكومة تكنوقراط هو مطلب تم التسويق له من قبل جهات سياسية معروفة وذلك قبل اندلاع الازمة الحالية. ولكن لا يمكن القول بأن الحل الفعلي يكمن فقط في تشكيل هذا النوع من الحكومات. من المهم طبعا ان يكون الوزير من ذوي الكفاءة العالية ومختص في مجاله، ولكن الاهم ان يتم إحاطته بمستشارين أكثر اختصاصا واكثر كفاءة. والأهم من كل ذلك يبقى في تشكيل حكومة متجانسة تعمل استنادا الى خريطة طريق واحدة بعكس ما يحصل في لبنان، حيث يتم إعتماد حكومات وحدة وطنية تمثل اغلبية الكتل النيابية على إختلافها، وهو ما يؤدي حكما الى شل العمل الحكومي وتعثره بفعل المشادات السياسية، لانه وبكل بساطة يصار الى استخراج التناقضات الموجودة في مجلس النواب من أجل وضعها على طاولة واحدة في مجلس الوزراء.