أخيراً، وبعد أسبوعيْن من "الرصد والمراقبة" لما يجري في الساحات تحت عنوان "الحراك" أو "الثورة"، قرّر "​التيار الوطني الحر​" أن ينزل بكلّ ثقله إلى الشارع، ويوجّه رسائل بالغة الدلالات إلى الأقربين قبل الأبعدين، ويؤكّد تماسكه وعزيمته على المواجهة، مهما كان الثمن.

وبعيداً عن لعبة "الأرقام" التي حاول البعض توظيفها هنا أو هناك، كان لافتاً حرص "التيار" عبر رئيسه وزير الخارجية ​جبران باسيل​، على اعتبار التحرّك "مكمّلاً" لا "مواجِهاً" للحراك الشعبيّ، وصولاً إلى حدّ محاولة "تصويب البوصلة" كما يحلو للبعض القول.

لكنّ كلّ ذلك لم يشفع لـ"التيار" الذي لم يسلَم من انتقاداتٍ بالجملة وُجّهت له، قد يكون أبرزها تكريسه مقولة "شارع مقابل شارع"، بل إنّ هناك من حمّله مسؤولية إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وهو ما ترجم بمشهد ​قطع الطرق​ الذي استعاد زخمه، بعد أيام من الهدوء النسبيّ.

فما الذي حقّقه "التيار" بنزوله إلى الشارع؟ وهل يمكن اعتبار الأمر "ضربة معلّم"، من شأنها "قلب الطاولة" من جديد، وإعادة رسم المعادلة، أم أنّه "غلطة معلّم" كان بالإمكان تجنّبها، وبالتالي تفادي النتائج التي أفرزتها في الشارع أولاً؟!.

السلطة تتظاهر؟!

لعلّ أكثر الانتقادات التي وُجّهت إلى "الوطني الحر"، والتي تبدو مُحِقّة في جانبٍ كبيرٍ، أنّه كرّس مظهراً لا يبدو منطقياً ولا واقعياً، وكأنّ السلطة تتظاهر ضدّ نفسها، باعتبار أنّ "التيار" يمثّل اليوم السّلطة، سواء أرضاه ذلك أم لا، وهو الذي يستحوذ منذ ثلاث سنوات على ​رئاسة الجمهورية​، وعلى ثلث ​مجلس الوزراء​، ويمتلك حصّة الأسد في التعيينات، بل إنّ أيّ قرارٍ لم يكن يمكن أن يقرّ من دون "مباركته".

ومع أنّ "التيار" وجد في مناسبة انقضاء نصف الولاية الرئاسية فرصةً مثاليّة لتبرير التحرّك، وتصويره "احتفالياً" برئيس الجمهورية، وبالتالي تضامنياً معه، فإنّ المشهد في توقيته، في ضوء الاحتجاجات الشعبيّة التي تشهدها مختلف المناطق، والتي لا توفّر رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ نفسه، بدا نافراً لكثيرين، ممّن تساءلوا ما إذا كان ​لبنان​ يلتحق بالأنظمة الدكتاتورية التي تعمد إلى إنزال مناصريها إلى الشارع لمواجهة أيّ اعتراضاتٍ تصطدم بها، وهو ما حصل في الماضي القريب في مصر وليبيا وحتى سوريا، على سبيل المثال لا الحصر.

لكنّ كلمة حقّ تُقال أنّ "التيار" لم يغرّد وحيداً في هذا السّرب اللامنطقيّ، بل إنّه قد يكون الأخير في قافلة أحزاب السلطة التي اختارت "الاستقواء" بشارعها، سواء على مستوى "استعراض القوة"، أو في إطار ما اصطُلح على تسميته بـ"ركوب الموجة". وإذا كان حزب "القوات اللبنانية" الأبرز على هذا الصعيد، وهو المُتَّهَم من كثيرين بـ"تحريك الشارع"، بل "حرفه عن مساره"، متناسياً أنّه كان جزءاً من السلطة على مدى السنوات الماضية، وبالتالي يتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية، بعيداً عن خطاب "المظلوميّة" المُستهلَك، فإنّ "​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، ولو آثر البقاء في الحكومة والتحذير من المجهول، ليس أفضل حالاً، بعدما استبق الحراك بالنزول إلى الشارع ضدّ حكومةٍ لم يجرؤ أصلاً على الانسحاب منها.

وحتى على الضفة المقابلة، لم يكن "التيار" أول النازلين إلى الشارع، فقد سبقه "​تيار المستقبل​" الذي "ضاع" بين "ركوب الموجة" تضامناً مع وجع اللبنانيين، أو "استعراض القوة" لتوجيه رسائل سياسيّة حول ضرورة إعادة تكليف رئيس الحكومة المستقيل ​سعد الحريري​ ل​تشكيل الحكومة​ الجديدة. ويبقى النزول "الأخطر" ذلك الذي مثّله ​الثنائي الشيعي​، "حزب الله" و"حركة أمل"، ولو بشكلٍ "عفويّ" كما قيل، باعتبار أنّه آثر استعراض "قوته" عبر التصادم المباشر مع الحراك الشعبيّ، وما مشهد إحراق الخيم وضرب المتظاهرين سوى دليل على ذلك، بمُعزَلٍ عن الدوافع التي لا يمكن أن تبرّره.

ردّ اعتبار!

وإذا كان تحرّك "التيار" ليس الأول من نوعه لقوى السلطة، فإنّه احتلّ حيّزاً متقدّماً لأسبابٍ واعتباراتٍ شتّى، أولاً لأنّه جاء "منظّماً" بخلاف معظم التحرّكات الأخرى، وثانياً لأنّه بدا وكأنّه في "مواجهة" الشارع المعارض، ولو حرص القيّمون على نكران ذلك، وثالثاً، وربما الأهمّ، لأنه حظي بما لم يحظَ به غيره، بتوجيه رئيس الجمهورية كلمة مباشرة للجموع، في مفارقةٍ توقّف عندها كثيرون، بمُعزَلٍ عن مضمون الكلمة، ودعوة الرئيس إلى "توحيد" الساحات بشكلٍ أو بآخر.

لكن، بعيداً عن الانتقادات التي تُوجَّه له، يبدو أنّ التحرّك حقّق عدداً من أهدافه وغاياته، على ما يقول بعض المحسوبين على "التيّار"، ممّن يصنّفونه في خانة "رد الاعتبار"، أو "الهجوم المضاد" إن جاز التعبير، بعدما طالتهم سهام الحراك الشعبيّ "عن غير وجه حقّ"، كما يقولون، وخصوصاً بعدما تمّت مساواتهم بـ"رموز الفساد" الذين أوصلوا البلاد إلى ما وصلت إليه، بل تمّ تصويرهم وكأنّهم "أصل البلاء"، وهي تهمةٌ لا يمكن أن تستقيم، في مواجهة قوى لطالما شكّلت ثوابت في الحكومات المتعاقبة منذ الطائف، يوم كان "التيار" منفياً أصلاً.

وبمُعزَلٍ عن النتائج التي انعكست في الشارع سريعاً، فإنّ "العونيّين" لا ينكرون صفة "استعراض القوة" عن تحرّكهم، خصوصاً أنّ ثمّة من يحاول "عزلهم"، من خلال تصويرهم وكأنّهم "الحلقة الأضعف"، وبالتالي فإنّ هذا التحرّك جاء ليثبت فرضية "توازن الردع"، وبأنّ "التيار" لا يزال قادراً على الإمساك بشارعه، رغم كلّ الصعوبات والمعوّقات، وأنّ حيثيّته الشعبية لم تصبح من الماضي، كما يحاول البعض الإيحاء. ومن هنا، تبدو رسالة "التيار" الأساسيّة بوجه من يريدون "تغييبه" عن الحكومة المقبلة، أو "الانقلاب" عليه بشكلٍ أو بآخر، أنّه لا يزال هنا، وأنّ تجاهله أو القفز فوقه هو تنكّر لشريحةٍ كبيرةٍ من اللبنانيين لها ثقلها، تماماً كما للمعارضين ثقلهم.

أما المطلوب، بحسب "العونيّين"، فهو تلقّف اليد الممدودة من "التيار" لتحقيق التغيير المنشود، خصوصاً أنّ الأخير يوافق على شعار "كلن يعني كلن"، لكن وفق قراءته الخاصة له، بمعنى أنّ الكلّ، وفي مقدّمهم "التيار"، تحت القانون، وجاهزٌ للمساءلة والمحاسبة، ولكنّه يرفض الأحكام المُسبقة بتعميم تهمة "الفساد" على الجميع من دون أدلّة، بما يحمي الفاسد الحقيقي.

تصويب للبوصلة؟

بالنسبة إلى "التيار"، فإنّ الحراك الشعبيّ بات بحاجة إلى "تصويب للبوصلة"، وخير دليلٍ على ذلك كيف أنّ "رموزاً" يعرف جميع اللبنانيين حجم "الفساد" الذي مارسوه، لم يتردّدوا في "ركوب الموجة"، عبر ملاقاة الحراك في منتصف الطريق، بل باتوا من الوُعّاظ حول آليات مكافحة الفساد.

لكن، وبعيداً عن كلّ الأسباب الموضوعيّة وغير الموضوعيّة، ثمّة من يتّهم "التيار" بمجافاة الحقيقة عبر تحرّكه، باعتبار أنّ خطاب "نظافة الكفّ" لم يعد كافياً، خصوصاً أنّه لم يعد طارئاً على الحكم، وأنّه وضع يده بيد من يصنّفهم "فاسدين"، بل تجاوز ما كان يعتبره "إبراءً مستحيلاً" لهذا أو ذاك، من أجل "جنّة الحكم".

وبين هذا وذاك، يبقى الثابت واحداً، لقوى السلطة والمعارضة في آن، وهو أنّ العودة إلى ما قبل 17 تشرين لن تكون ممكنة، وإن كان سعي أيّ طرف لـ"إلغاء" الآخر يجب أن يصنَّف من "المحظورات"، تحت طائلة الذهاب فعلاً إلى المجهول، الذي لن يتأخّر في الإفلات عن السيطرة...