لا تجد حتى بين أعتى أعداء الولايات المتحدة من ينكر احتلالها موقعا متقدما في السياسة الدولية، لكن اين هو هذا الموقع اليوم تحديدا هو السؤال الأهم والأكثر الحاحا؟ والحكم المرتبط بموقع الولايات المتحدة على هرم السياسة الدولية، يقتضي النظر إلى مسار السياسات والاستراتيجيات الأميركية تجاه أبرز من تصنفهم في خانة خصومها او منافسيها، وكذا يقتضي البحث في مدى جدوى هذه الاستراتيجيات في تحقيق أهدافها لاسيما وان خصوم الولايات المتحدة ومنافسيها يقارعونها استراتيجيا على امتداد الخريطة الدولية، وضبط ومراقبة سجل نقاط التقدم والتراجع الاستراتيجي يسمح باستشراف المسارات المحتملة لمجموع الازمات التي تعصف في السياسة الدولية، وبالتالي فإن رصد ودراسة صراع الاستراتيجيات يسمح بتوقع الارتدادات التي تتجلى في التحولات الإقليمية والمحلية أحيانا.

بناء عليه لا بد من الانطلاق من المستوى الدولي الذي قد يكون الثلاثي الأميركي-الصيني-الروسي أبرز فاعليه، نظرا لغياب استراتيجية موحدة يعتمدها الاتحاد الأوروبي تجاه غالب قضايا السياسة الدولية، مما يجعل منه قوة رديفة بالمقارنة مع الثلاثي سابق الذكر.

العلاقات الأميركية الصينية هي نقطة الانطلاق، فالرئيس الأميركي دونالد ترامب من أولى خطواته التي أعلن عنها في خطاب تحديد أهدافه ضمن فترة المئة يوم الأولى من استلامه سدة الرئاسة كانت " سأخرج من مفاوضات الشراكة عبر المحيط الهادئ TPP"، ولقد خرج بالفعل، واستراتيجية الشراكة عبر المحيط الهادئ بحسب الإدارة الأميركية كانت تهدف الى مواجهة توسع النفوذ الصيني في المنطقة، ومن المعلوم ان الحكم استمرارية ولا يصح اعتبار خطوة ترامب هذه كضربة لتسجيل النقاط السياسية في مرمى الإدارة السابقة في عهد سلفه باراك أوباما، وانما التوصيف الأقرب للواقع هو تراجع عن استراتيجية أميركية فشلت في تحقيق أهدافها بغية تعديلها او استبدالها باستراتيجية أخرى. وهكذا كان فلقد أطلقت إدارة الرئيس ترامب بتاريخ 30-07-2018 استراتيجية جديدة استهدفت فيها منطقة آسيا والمحيط الهادئ أو ما أسمته الهند والمحيط الهادئ تحت عنوان: " محيط هادئ حر ومفتوح" تهدف من خلالها إلى تسريع مشاركة القطاع الخاص الأميركي في المنطقة وتعزيز فرص التصدير الأميركي نحوها. وسوف تركز هذه المبادرة الاستراتيجية الجديدة على تعزيز تنمية البنى التحتية وتدعيم أمن الطاقة والوصول للطاقة. وفي هذا السياق سوف تعتمد الولايات المتحدة سياسة تعزيز التنمية والنمو من خلال الطاقة، اعتمادا على تعزيز صادرات الولايات المتحدة من الطاقة وتشجيع سياسات السوق. وانطلقت بالخطوات التنفيذية لهذه الاستراتيجية فوقعت وكالة التجارة والتنمية الأميركية اتفاقية مع الهند للتطوير في قطاع الطاقة، وأطلقت برنامج للتعاون في مجال الغاز الطبيعي المسال مع اليابان.

وبالنظر إلى الشرح التي تقدمه الولايات المتحدة لمبادرتها الاستراتيجية الجديدة على لسان مساعد وزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ الكس. ن. وانغ نلحظ أنه انطلق من الدافع الحقيقي للاهتمام الأميركي في المنطقة بعيدا عن مفردات البروباغندا المرتبطة بنشر الديموقراطية وحماية دول المنطقة من امتداد نفوذ القوى الرجعية ونحوه فقال:" مع النمو السكاني والوزن الاقتصادي لمنطقة الهند والمحيط الهادي، من المطلوب أن يزداد تركيزنا وجهودنا في المنطقة بشكل متكافئ مع هذا النمو" وتابع الكس وانغ في حل الفاظ هذه الاستراتيجية الجديدة فقال:" حرة قبل كل شيء نعني بها المجال الجوي الدولي... أما مفتوحة ففي المقام الأول نعني خطوط الاتصال البحرية المفتوحة والممرات الهوائية المفتوحة. هذه خطوط الاتصال البحرية المفتوحة هي بالفعل شريان الحياة للمنطقة. وإذا نظرت إلى التجارة العالمية، مع مرور 50 في المئة من التجارة عبر المحيط الهندي الباسيفيكي على طول الطرق البحرية، لا سيما عبر بحر الصين الجنوبي، فإن الممرات البحرية المفتوحة والممرات الهوائية المفتوحة في المحيط الهادي الهندي أصبحت حيوية ومهمة بشكل متزايد للعالم.

ولا ينسى مساعد وزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ ان يفسر خلفية التحول الذي أصاب تسمية المنطقة أو الرقعة الاستراتيجية التي تعبر عنها فقال: "مصطلح الهند والمحيط الهادئ يعترف بالواقع التاريخي والواقع الحالي الذي تلعب فيه الهند على وجه الخصوص دورًا رئيسيًا في منطقة المحيط الهادئ وشرق آسيا وجنوب شرق آسيا. ومن مصلحتنا، من مصلحة الولايات المتحدة فضلا عن مصالح دول المنطقة أن تلعب الهند دورا وازنا ومتزايدا في المنطقة، فالهند تستطيع حفظ وترسيخ النظام الحر والمفتوح في منطقة الهند والمحيط الهادئ ومن سياستنا ضمان أن تلعب الهند هذا الدور وتصبح مع مرور الوقت لاعباً أكثر تأثيراً في المنطقة.

وسعيا من إدارة الرئيس ترامب للتكيف مع الحاجات التمويلية لدعم استراتيجيتها في المنطقة، وقعت هيئة الاستثمار الخاص الخارجي –الأميركية-(OPIC) مع البنك الياباني للتعاون الدولي (JBIC) ووزارة الشؤون الخارجية والتجارة الأسترالية (DFAT) ومؤسسة تمويل الصادرات والتأمين الاسترالية (EFIC) مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في مجال حشد الاستثمار الخاص في منطقة الهند والمحيط الهادئ. هذا وتعمل الولايات المتحدة على توسيع التعاون الأمني البحري في منطقة الهند والمحيط الهادئ من خلال دعم مبادرة خليج البنغال التي تضم كل من بنغلاديش- بوتان- الهند- نيبال- سريلانكا-ميانمار وتايلند.

وفي هذا السياق فإن الولايات المتحدة وباعتراف صريح منها تعتبر ان استراتيجيتها المسماة "محيط هادئ حر ومفتوح" تسعى من خلالها للرد على التحدي التي تشكله استراتيجية الحزام والطريق الصينية التي تشكل منطقة الهند والمحيط الهادئ رقعة أساسية منها. فالولايات المتحدة تعتبر ان الصين تستعمل مبادرة الحزام والطريق لمد نفوذها من خلال التمويل ومشاريع بناء البنية التحتية في جميع أنحاء العالم، مع التركيز على آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا، وذلك بغية تعديل النظام السياسي والاقتصادي الدولي بما يتناسب مع المصالح الصينية بحسب الزعم الأميركي، إلى جانب أهداف بكين الجيوسياسية كتأمين إمدادات الطاقة وتعزيز النفوذ الصيني في السياسة الدولية وتوسيع نطاق وصول جيش التحرير الشعبي الصيني.

وانسجاما مع ما سبق ترى الولايات المتحدة أن الصين تحاول استخدام مبادرة الحزام والطريق لتعزيز نفوذها ووجودها في منطقة الهند والمحيط الهادئ من خلال الوصول إلى الموانئ والقواعد الأخرى للتزود بالوقود وإعادة الإمداد لأسطولها البحري، كما انها تعمل على زيادة عملياتها ومناوراتها مع الجيوش في المنطقة. وهي تعمل لتقويض التحالفات الأميركية والشراكات في المنطقة لإعادة ترتيبها بما يتناسب مع مصالحها، كما انها تسعى إلى دور مهيمن في آسيا وتنظر إلى التحالفات والتأثيرات العسكرية الأميركية باعتبارها العائق الأساسي أمام تحقيق هذا الهدف .

اذا بحسب الرؤية الأميركية تتخذ المواجهة الصينية الأميركية في منطقة الهند والمحيط الهادئ بعدين أساسيين: الأول هو البعد الاقتصادي والثاني هو البعد العسكري، وبالنظر إلى الحراك الصيني للرد على البعد الاقتصادي نجد ان حجم التجارة بين الصين والدول على طول مبادرة الحزام والطريق بلغ 1.3 تريليون دولار أميركي العام الماضي (أي في العام 2018)، وهذا يشير إلى نمو سنوي بنسبة 16.3 في المائة، وقد صدرت الصين سلع بقيمة 704.73 مليار دولار إلى دول الحزام والطريق العام الماضي بزيادة 10.9 في المائة على أساس سنوي، في حين استوردت بضائع منها بقيمة 563.07 مليار دولار بزيادة 23.9 في المائة على أساس سنوي. ولقد استثمرت الشركات الصينية 15.64 مليار دولار في القطاعات غير المالية في بلدان الحزام والطريق العام الماضي بزيادة 8.9 في المائة على أساس سنوي، في حين تلقت استثمارات منها بقيمة 6.08 مليار دولار بزيادة 11.9 في المائة . وتجدر الإشارة إلى ان الاستثمارات توجهت بشكل رئيسي إلى دول مثل سنغافورة ولاوس وباكستان وإندونيسيا وفيتنام وماليزيا وتايلاند وكمبوديا.

في سياق متصل تم تفعيل وتسريع العمل لبناء الممر الاقتصادي بين الصين ومنغوليا وروسيا، ففي ايار 2018 وقعت الصين والاتحاد الأوراسي اتفاقية للتعاون التجاري والاقتصادي توفر أرضية مشتركة جديدة للتعاون الصيني الروسي في بناء الحزام والطرق. ومما يدلل على تطوير التعاون وصل حجم التجارة الثنائية بين الصين وروسيا عام 2018 إلى 107.06 مليار دولار، متجاوزا 100 مليار دولار لأول مرة، مما يمثل زيادة قدرها 27.1 في المائة، وهو أكبر معدل نمو بين الشركاء التجاريين العشر الأول للصين. علاوة على ذلك تعاونت الصين وروسيا لتنفيذ مشاريع البنية التحتية الرئيسية، فعلى سبيل المثال في بداية عام 2018 بدأ الخط التجاري الثاني لخط أنابيب النفط بين الصين وروسيا بالعمل، وفي نهاية العام بدء تشغيل الخط الثالث من مشروع يامال للغاز الطبيعي المسال وبذلك بلغ قدرته القصوى. مع العلم ان تشين وي تشونغ نائب المدير العام لمؤسسة البترول الوطنية الصينية (سي ان بي سي) قال ان المشروع يسهم في أمن الطاقة الصيني، فالمساهمين في المشروع هم شركة نوفاتيك الروسية (50.1%) ، توتال الفرنسية (20%) ،CNPC الصينية (20%) وصندوق طريق الحرير الصيني (9.9%).

بالتزامن والتناغم مع العمل لتطوير العلاقات الاقتصادية مع روسيا نسجت الصين منظومة متكاملة من مشاريع التعاون الاقتصادي، فوقعت مع ماينمار مذكرة تفاهم لبناء الممر الاقتصادي بين الصين وماينمار في أيلول من العام 2018 وهو يعتبر جزءا مهما من تنفيذ استراتيجية الحزام والطريق. وتابعت الصين في نسج ورص شبكة الأمان الاقتصادية من خلال تفعيل العمل في الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان التي أنجز من ضمنه أكثر من عشرة مشاريع وهناك نحو اثنا عشرة مشروعا قيد التنفيذ، وفي شهر تشرين الثاني من العام 2018 انطلق العمل بخط الباصات الذي يربط بين الصين وباكستان وهو أحد أبرز مشاريع هذا الممر وهو مهم جدا للسكان على طرفي الحدود. وللمزيد من التكامل البنيوي مع المنظومة الاقتصادية في المنطقة أطلقت الصين بالتعاون مع سنغافورة ممر النقل الجنوبي التي عادت وغيرت اسمه رسميا ليصبح ممر التجارة الدولية البرية والبحرية الجديد الذي يربط 155 مرفأ في 71 دولة ومنطقة حول العالم، ويربط بشكل أفضل بين جناحي مبادرة الحزام والطريق أي حزام طريق الحرير الاقتصادي وطريق الحرير البحري للقرن الواحد والعشرين. كما وقد وقعت كل من كمبوديا وإندونيسيا على التوالي وثائق تعاون مع مبادرة "الحزام والطريق" الصينية خاصة وأن رؤية إندونيسيا للعالم البحري تتمتع بتكامل قوي مع مبادرة الحزام والطريق الصينية .

بناء على ما تقدم وبالمقارنة بين استراتيجية الإدارة الأميركية التي اعتمدت على تعاون اقتصادي تتقاسم اعباءه مع القطاع الخاص ومع دول المنطقة القادرة على دعم الاقتصاد الأميركي وتوفير سوق لموارد الطاقة الأميركية، نلحظ ان الاستراتيجية الأميركية تضع اميركا أولا لتغرف من ثمار المنطقة وتوفر لها الانخراط في المنطقة على حساب اليابان وأستراليا وآخرين، في حين أن الاستراتيجية الصينية المدعومة بمجموعة من المشاريع الاقتصادية المشتركة التي تصب في خدمة دول المنطقة من حيثية تطوير بناها التحتية وكذا تعزيز النمو الاقتصادي فيها تشكل طرحا اكثر جاذبية للتعاون وهو ما تثبته الاتفاقات والمشاريع المنجزة سابقة الذكر، وبالتالي في الشق الاقتصادي يتضح ان المحاولة الأميركية لمواجهة الاندفاعة الصينية تعتبر محاولة خجولة غير قادرة على تشكيل خيار بديل يتمتع بنفس مستوى الكفاءة والمردود اللذين تعرضهما المبادرة الصينية.

اما على صعيد الرد الصيني على البعد الثاني للمواجهة في منطقة الهند والمحيط الهادئ وأردت به البعد العسكري، وبشكل موجز جدا واعتمادا على التقويم الأميركي لمعطيات المواجهة في هذا الشق، فقد اقرت الولايات المتحدة بما يلي:

أدى تحديث جيش التحرير الشعبي بالفعل إلى تحويله لقوة قادرة على تحدي العمليات الأميركية في المنطقة، مما يشكل تحديا للافتراض الطويل الأمد للجيش الأميركي القائم على نظرية التمتع بالهيمنة الأرضية والجوية والبحرية والمعلوماتية في أي نزاع في حقبة ما بعد الحرب الباردة. فعدد القوات البحرية الصينية يتفوق بشكل متزايد على جيرانها في منطقة الهند والمحيط الهادئ، وهو ما يهدد المصالح الأمنية الإقليمية للولايات المتحدة. ومع التقدم الذي أحرزته القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي، لم تعد الولايات المتحدة وحلفاؤها وشركاؤها يفترضون تحقيق التفوق الجوي في أي نزاع في منطقة الهند والمحيط الهادئ، فجهود جيش التحرير الشعبي لتوسيع مدى فعالية قواته الجوية بما يتجاوز الساحل الصيني المباشر تسمح له بالتفوق بشكل متزايد في المجال الجوي في المنطقة. كما وقد أدى إنشاء الصين لقوة الدعم الاستراتيجي إلى تحسين القدرات المشتركة لجيش التحرير الشعبي ولاسيما ما اسموه العمليات الفضائية والحرب الإلكترونية. وتطوير هذه القدرات القتالية يهدد إمكانية الولايات المتحدة بسط هيمنة في مجال المعلومات والتحكم فيما يعرف بالطيف الكهرومغناطيسي. ناهيك عن استمرار الصين في تطوير ونشر أنظمة صواريخ متوسطة وطويلة المدى تعمل بالجو والبحر والأرض، مما يحسن إلى حد كبير قدرة الصين على ضرب الأهداف الثابتة والمتحركة ويبعد أي هدف محتمل إلى خارج سلسلة الجزر الثانية. وهو ما يهدد القواعد الجوية الأميركية وحاملات الطائرات وغيرها من السفن السطحية، ويطرح مجموعة من التحديات الاستراتيجية والتشغيلية الخطيرة على الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها في جميع أنحاء منطقة الهند والمحيط الهادئ.

بالمحصلة لم يبق للولايات المتحدة الا القول اننا بتنا عاجزين عن خوض مواجهة مضمونة النتائج او حتى راجحة للكفة الأميركية في منطقة الهند والمحيط الهادئ، بل فإن أي مواجهة بحسب الإقرار الأميركي بالتفوق الصيني سوف تكون نتائجها أقرب لتحقيق الصين التفوق فيها.

مجريات المقارعة الاستراتيجية الواردة أعلاه تسهم في فهم خلفيات استعمال الرئيس الأميركي دونالد ترامب أدوات الحرب الاقتصادية في مواجهته مع الصين، وتشرح قراره بالمضي قدما وشن ما بات يسمى عرفا بالحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين ، ومن المعلوم ان الاتهامات الأميركية للصين فيما يتعلق بالممارسات الاقتصادية التجارية والمالية لم تتغير، فيكاد يكون من الثوابت اتهام الإدارة الأميركية للصين بما يسموه العدائية الاقتصادية أو الممارسات التجارية غير العادلة كما اتهامها بالتأثير على سعر صرف اليوان والتلاعب بقيمته بغية دعم سياستها للتصدير. لكن الرئيس ترامب أراد ان يكون مختلفا بطريقته فلم يكتف بالاتهام بل قرر المضي قدما وإعلان وضع حزمات متتالية من الضرائب والحواجز الجمركية على السلع الصينية تقدر قيمتها مجتمعة بمليارات الدولارات.

بالمقابل الصين بادرت بالرد على الهجوم الأميركي من خلال اصدار وثيقة تدحض فيها المزاعم والاتهامات الأميركية وتدعوا للحوار تحت عنوان "The Facts and China’s Position on China-US Trade Friction " لكن رد الاتهامات ودعوة الحوار لم تلق الصدى المطلوب ولم تلجم اندفاع الرئيس ترامب باتجاه المزيد من الضغط الاقتصادي وغيره، ما دفع الصين باتجاه رد الفعل والانجرار نحو سياسة الضرائب والحواجز الجمركية على السلع الأميركية.

بالتزامن مع التصعيد والتصعيد المضاد ارتفعت أصوات تجمعات رجال الاعمال الأميركيين رفضا لتوجهات الرئيس دونالد ترامب باعتماده سياسة التصعيد والضرائب ودعوتهم لتوفير بديل عن الإنتاج بالصين، كما وارتفعت الأصوات من ضمن الإدارة الأميركية نفسها، ومن أبرز هذه الأصوات كان صوت رئيس الشؤون الدولية بغرفة التجارة الأميركية ميرون برلنت خلال جولة من الحوار الاقتصادي في بكين بتاريخ 10 أيلول 2019 حيث قال:

نجتمع اليوم في لحظة "فائقة الأهمية"، ليس فقط للعلاقة الثنائية ونمونا الاقتصادي، ولكن أيضًا للاقتصاد العالمي. فالتباطؤ العالمي أصبح واضحًا الآن لذا صحح صندوق النقد الدولي مؤخرًا نموه المتوقع لعام 2019 وخفضه إلى 3.2٪. فقد أدت حالة عدم اليقين الناتجة عن التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين وغيرها من المخاطر الجيوسياسية مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بيئة خارجية معقدة وصعبة بشكل متزايد.

فالاقتصاد الأميركي، الذي كان قوياً مع انخفاض معدل البطالة وانخفاض التضخم يواجه مخاطر متزايدة، ونحن نشهد ضغوطًا هبوطية في المقاييس الرئيسية، مثل الثقة في الأعمال والسياسة النقدية. تهدد الاتجاهات الحمائية الحالية بالاقتصاد العالمي الضعيف بالوصول إلى الركود، أو ما هو أسوأ. نحن نعارض الحمائية من جميع الأنواع والتعريفات من جانب واحد على وجه الخصوص. فلقد عارضنا باستمرار استخدام الولايات المتحدة لهذه التعريفات على مدار العامين الماضيين وكذا التدابير الانتقامية التي اتخذتها الصين. إننا نشعر بقلق عميق إزاء تأثيرها الضار على الولايات المتحدة والصين والاقتصادات العالمية. وتابع قائلا نحن بحاجة ماسة إلى خفض الاحتكاك والعودة إلى وضع طبيعي أكبر في العلاقات الاقتصادية الثنائية. ببساطة، لا يمكننا تحمل أي تأخير أو تصعيد إضافي للتوترات. في ظل عدم إحراز تقدم في المفاوضات، نواجه خطر حدوث أضرار جسيمة لاقتصاداتنا، مع احتمال انتشار العدوى في جميع أنحاء العالم. مع تكثيف حملات الانتخابات الرئاسية الأميركية، هناك أيضًا خطر متزايد من أن تصبح الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين أكثر تسيسًا. باعتبارنا أقوى دولتين، فإننا نتقاسم المسؤوليات لتعزيز السلام والازدهار والاستقرار العالميين. لا يوجد فائزون في حرب تجارية، بل خاسرون فقط، وختم بالقول يقف مجتمع الأعمال الأميركي بقيادة غرفة التجارة الأميركية على أهبة الاستعداد لتقديم الدعم والمساعدة في هذا الجهد. الآن أكثر من أي وقت مضى، مطلوب أن نعمل بجد لمساعدة الحكومتين على إعادة علاقتنا الاقتصادية إلى مسارها الإيجابي.

بناء على ما تقدم لا يستطيع الرئيس دونالد ترامب القفز عن كل ما شرحه وأشار اليه رئيس الشؤون الدولية بغرفة التجارة الأميركية ميرون برلنت من عواقب واثار جسيمة على الاقتصاد الأميركي وكذا الاقتصاد الدولي، لكن ان كان هناك خاصية اشتهر بها الرئيس دونالد ترامب فلقد اشتهر بالتراجع وهو يصرخ كمن يعلن اطلاق الهجوم أو يعلن الانتصار، وفي هذا السياق جاء تصريح الرئيس دونالد ترامب بتاريخ 18 أيلول 2019 حيث قال: إنه أبلغ الصين أنه إذا جاء الاتفاق التجاري بعد انتخابات الثالث من تشرين الثاني 2020، فإنه سيكون بشروط "أسوأ بكثير" لبكين من تلك التي تستطيع تحقيقها الآن. مع العلم ان هذا التصريح جاء قبل أيام قليلة من الاجتماع المقرر بين نواب مفاوضي التجارة الأميركيين والصينيين في واشنطن. ومن المتوقع ان يكون اللقاء لقاءا تحضيريا لمفاوضات رفيعة المستوى في أوائل تشرين الأول تهدف للوصول الى تفاهمات تقدم مخرج من الحرب التجارية ، وهذا اللقاء المرتقب مهد له انحسار التوترات التجارية بعدما أرجأ ترامب لأسبوعين رسوما كان من المقرر تطبيقها من أول تشرين الأول على واردات صينية قيمتها 250 مليار دولار، في حين أجلت الصين رسوما انتقامية بدورها. وانسجاما مع سياسة الصراخ حتى في حالات التراجع عاد الرئيس دونالد ترامب وتراجع عن الشق التهديدي من تصريحه الأول الذي اشترط فيه حصول التفاهم قبل الانتخابات الأميركية، فقال:" لا حاجة للتوصّل إلى اتّفاق تجاري مع الصين قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية المقرّرة في نهاية 2020، مشدّداً على متانة الاقتصاد الأميركي"

بالرغم من تبشير الرئيس ترامب بقرب الوصول الى تفاهم تجاري مع الصين، هذا لا يعني بتاتا انه تخلى عن نظرته ومقاربته للصين عموما، فهو يعتبرها خصما ومنافسا ومختلف مجريات وفصول المقارعة الاستراتيجية المذكورة أعلاه تفيد بأن الرئيس ترامب لم يترك فرصة ولا وسيلة الا وحاول استخدامها بوجه الصين، ومن الراجح انه لن يتخلى عن هذا الدأب والنهج، ولعل الشاهد الأقرب الينا كان اعتلاء الرئيس ترامب لمنبر الأمم المتحدة وامام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 24 أيلول2019 ليقول: " في صميم رؤيتنا للتجديد الوطني ، هناك حملة طموحة لإصلاح التجارة الدولية. لعقود من الزمن، تم استغلال النظام التجاري الدولي بسهولة من قبل الدول التي تتصرف بسوء نية. في أميركا، كانت النتيجة خسارة 4.2 مليون وظيفة في الصناعات التحويلية و15 تريليون دولار في العجز التجاري خلال الربع قرن الأخير، إن الاختلاف الأكثر أهمية في النهج الأميركي الجديد بشأن التجارة يتعلق بعلاقتنا مع الصين. فالصين تبنت نموذجًا اقتصاديًا يعتمد على حواجز ضخمة لحماية السوق، واستعملت الدعم الحكومي بشكل جسيم، والتلاعب بالعملات، وإغراق السوق بمنتجاتها، والنقل القسري للتكنولوجيا، وسرقة الملكية الفكرية وأيضًا الأسرار التجارية على نطاق واسع.

وبناء عليه فقدت الولايات المتحدة 60 ألف مصنعا بعد دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وبالتالي تحتاج منظمة التجارة العالمية إلى تغيير جذري. فلا ينبغي السماح لثاني أكبر اقتصاد في العالم بالإعلان عن نفسه "دولة نامية" من أجل التلاعب واستغلال النظام على حساب الآخرين، ولمواجهة هذه الممارسات غير العادلة، فرضت تعريفة جمركية ضخمة على أكثر من 500 مليار دولار من البضائع الصينية الصنع.

وفي سياق متصل لم يترك الرئيس ترامب الفرصة تفوته للتصويب على الصين وعلى قيادتها السياسية من على منبر الأمم المتحدة، فاستغل ما يحصل من احداث في هونج كونج ليقول: " اثناء سعينا لتحقيق الاستقرار في علاقتنا مع الصين، نحن نراقب الوضع في هونغ كونغ عن قرب، وإن الطريقة التي تختار بها الصين التعامل مع الموقف ستقول الكثير عن دورها في العالم في المستقبل" .

في ختام عرض واقع العلاقات الصينية الأميركية في مضمار الحوار الاستراتيجي يظهر جليا ان الرئيس ترامب يعتبر الصين في اقل توصيف منافسا خطيرا يعمل على تحريك مختلف بؤر التوتر حوله، ويحتل عنوان النظام الاقتصادي الدولي الساحة الأبرز للمواجهة الأميركية الصينية، ففي بضعة أسطر من على منبر الأمم المتحدة لخص الرئيس ترامب كل معاني الاستغلال والتخريب الاقتصادي ليصف الصين بها، وفي عنوان التهديدات العسكرية الاستراتيجية تعتبر الإدارة الأميركية الداعم الأول لقضية تايوان إلى جانب دعمها مجموعة الدول التي تتنازع مع الصين في بحر الصين، مع العلم ان مجمل هذه القضايا والعناوين تحمل في طياتها ما تعتبره الصين تهديدا لوحدة أراضيها ومياهها الإقليمية، ناهيك عن السعي الأميركي الصريح بالوقوف خلف أي دولة إقليمية ولاسيما الهند للعب دور العائق والمواجه للصين في جوارها الإقليمي المباشر.

ولا يحتاج المراقب الى كثير استدلال ليستنتج ان الولايات المتحدة اختارت اثارة عنوان الحراك في هونج كونج من على منبر الأمم المتحدة بغية إعطاء هذا الحراك البعد الدولي والضغط على الصين من خلاله، مع العلم ان الصين تصنف السلوك الأميركي اتجاه قضية هونج كونج بين ثلاث خانات الافتعال أو الدعم أو الاستغلال، ففي خضم الحراك في هونج كونج قامت الصين بنشر البيانات الشخصية لديبلوماسي أميركي التقى قادة الحراك المعارض في هونج كونج، فاعتبرت الولايات المتحدة خطوة الصين بمثابة البلطجة!!! الغريب ان الولايات المتحدة اعتبرت نشر بيانات الديبلوماسي الأميركي الذي قابل قادة الحراك المعارض في هونج كونج بلطجة، فهل تعتبر بيعها لتايوان 66 طائرة مقاتلة من ضمن دعم الديموقراطية مثلا..!!!! .

المواجهة الاستراتيجية الأميركية الصينية هي جزء من صورة التنافس على الساحة الدولية، ويبدو جليا ان الإدارة الأميركية وعلى رأسها الرئيس ترامب قد اعتمدت على سياسة تعميم الازمة في مواجهتها مع الصين، كي تشرك مختلف الأطراف الدولية في البحث عن تسوية أو مخرج يساهم في خروجها من تعثرها في مواجهتها الاقتصادية مع الصين، وما هذا الا دليل على عجزها عن مقارعة الصين اقتصاديا بشكل منفرد، وبالرغم من أهمية ما يقدمه البحث في ابعاد المقارعة الاستراتيجية الأميركية الصينية تبقى هذه المقارعة جزءا من الصورة، يسهم في استكمالها استعراض العلاقات الأميركية الروسية وهو ما سنتناوله لاحقا.